دَرَن المناصب
قبل عام ميلادي،
بالتمام والكمال، ذهبت للمبنى الرئيسي لإحدى الجهات الحكومية لإنجاز معاملة لا
تُنجز بيوم واحد، وذلك لأنها تحتاج لتوقيع أحد المسؤولين هناك، ومعلوم أن
المسؤولين دائمًا مشغولون في الاجتماع، جزاهم ربي بما هم أهله.
وبعد مراجعات استمرت
ثلاثة أيام، بالتمام والكمال، حصلت على التوقيع المبارك من صاحب الأنامل الذهبية،
ومضيت في طريقي لأتم ما بقي من تواقيع، وتركت ذلك المسؤول يكمل اجتماعاته مع باقي
المسؤولين، جزاهم ربي بما هم أهله.
كتبت بعد ذلك
مقالة عالجت بها الأمر من كافة النواحي، وأسميتها: (سيدي الكلب)، ولولا أن نصحني
أحد أصدقائي المحامين بعدم نشرها لما توانيت عن النشر ساعة.
ثم مضت شهور،
وقدّر الله لي أن أعيد رحلتي إلى ذلك المكان المشؤوم، وذلك لأنجز معاملة لا تُنجز
بدقيقتين، لأنها تحتاج لاستلام إحدى الموظفات ورقة مني، ومعلوم أن الموظفات دائمًا
لا يُجدن استلام أوراق المراجعين، جزاهن ربي بما هن أهله.
صعدت لمكتب مسؤول
هناك، ولولا أني كنت في غمرة غضبي لما سمح لي السكرتير بالدخول، ولأخبرني أن
المسؤول في اجتماع، كما هو عُرف المسؤولين دائمًا، جزاهم ربي بما هم أهله.
العجيب في الأمر
أن المسؤول كان محترمًا، نعم والله كان كذلك، أقسم أني لا أكذب بحرف واحد، فنقلت
له شكواي من الموظفات غير المهنيات، فاتصل مباشرة بمسؤولهن، وطلب منه تأديب
موظفاته، وأن يعاملن المراجعين أفضل معاملة، جزانا الله بما هو أهله.
كتبت بعد ذلك عدة
تغريدات في موقع (تويتر) امتدحت بها (أبا فلان) لطيب صنيعه، ولم يثنني عن الإسهاب
في ذكر محاسنه التي رأيتها شيء، جزاه ربي خيرًا لما فعله معي.
شاء الله لي قبل
أيام أن أذهب لنفس المكان، لأنجز معاملة لا يصح أن تستغرق أكثر من 10 ثوانٍ، لأنها
تحتاج إلى توقيع ذلك المسؤول المحترم، لكنه كان غير محترم هذه المرة، فأخبرتني
السكرتيرة أنه باجتماع، ولا يسمح لأحد بالدخول، انتظرت 10 دقائق، ثم طلبت منها أن
تدخل بورقتي وتأتيني بالتوقيع، لكنها خرجت إليّ بالورقة كما هي، من غير توقيع،
لأنه رفض توقيعها الآن، ويطلب عودتي في يوم غد، جزاه الله وباقي المسؤولين بما هم
أهله.
(أبو فلان) كان
طيب الصنيع، حسن الخلق، كريم الفعل، وأشدد وأذكّر بكلمة (كان)، أي أنه فعل ماضٍ،
ولا يُرجى أن يكون حاضرًا أو مستقبلًا ما بقي هو في المنصب، فالظاهر أن المنصب
يفسد الأخلاق، شأنه شأن صديق السوء.
هناك نوع من
العقليات السقيمة، أسميها (عقلية المسؤولين)، وتحتاج لمجلدات لأعطيها حقها من الذم
والنقد، ولست هنا بصدد الاسترسال بالحديث عنها، إنما سأتكلم عن بضعة أمور فقط، وقد
أفرد كتابًا لتلك العقلية في قابل الأيام.
حين يكون الشخص
متلبسًا لشخصية معينة، والتي غالبًا تكون محترمة، ستنتكس سريعًا بعد استلام
المنصب، تمامًا كالذي حدث لأخينا المسؤول سالف الذكر، وأكاد أجزم أنه يوم عاملني
باحترام كان قد استلم منصبه مؤخرًا، ولم يكن قد تلوث بعد بدَرَن تلك العقلية.
ولا أحسب تلك
الأدران تأتي من نفسها، بل إنها تأتي من خلال التراكم شيئًا فشيئًا، إذ حين يجلس
مسؤول قديم مع آخر جديد فإنه يبدأ بتعبئة فكره بتلك الأفكار القبيحة، والتي في
غالب الظن سيستنكرها الجديد بحكم أنها تنافي الإنسانية، فضلًا عن كونها تنافي
النهج الإسلامي في تيسير أمور الناس، إلا أنه بالاستمرار سيتشربها ويقتنع بها، بل
ويعتبرها من المسلّمات.
انظروا لو شئتم
لأي أحد تظنونه سينال منصبًا قريبًا، واسألوه بعض الأسئلة المتعلقة بالبيروقراطية
والفساد الإداري، وستسمعون عجبًا، وستسمعون أعجب من العجب حين ينال المنصب حقًا،
إذ سينسخ كل ما قاله سابقًا، ويتذرع بأن المسؤولية صعبة، وتستلزم الشدة والتعنت
أحيانًا، جزى الله أصحاب تلك الأفكار بما يستحقون، ولا أحسبهم يستحقون إلا العذاب
الأليم بما يذيقونه للمراجعين.
لو كان الأمر بيدي
لكان غير الذي هو كائن، إذ سأخضِع كل مرشح لمنصب لدورة مكثفة تنقيه مما يملك من
أفكار، وتقيه مما قد يلتصق به لاحقًا ممن سبقوه، حتى يأتي اليوم الذي يصبح هذا
المرشح مسؤولًا قديمًا، فيؤثّر بالإيجاب على من سيكون جديدًا، وحينها ستُلغى تلك
الدورة، فكما استشرى الفساد في نفوس المسؤولين حاليًا، سيستشري الخير في نفوسهم
أخلافهم، وسيقول الناس: "رحم الله سعدًا، وجزاه عنا كل خير لما قام به من
تنقية للفساد".
سعد المحطب
19-2-2018
19-2-2018