الأحد، 26 أغسطس 2018

اختر حائطًا يناسبك


اختر حائطًا يناسبك

في إحدى الحصص الدراسية التي أحبها جدًا؛ أخبرني أحد الطلاب الذين أحبهم جدًا أنني أحد المعلمين الذين يحبهم جدًا، فقلت له: "حبك ربك، ما طلبك؟"، فمعلوم أن المراهق لا يصرح بحبه -صادقًا أو كاذبًا- إلا ليطلب أمرًا.

ذلك الطالب ظريف جدًا، وأستمتع بالحصة أكثر إن كان حاضرًا، بعد أن قال ما عنده، وطلب ما كان في خاطره؛ أخبرته أني لست مصباح (علاء الدين)، ولست مضطرًا لتلبية طلبه الذي لم يكن بتلك الأهمية، فهددني إن أنا لم ألبّ طلبه فإنه سيغضب مني.

طالب عندي يغضب مني!! وفوق ذلك هو أصغر من أصغر إخوتي!! وقفت عند باب الفصل، وطلبت منه القدوم عندي كي أكلمه خارجًا، وهذا أمر أفعله مع كل طالب أريد محادثته على انفراد، فخرج معي، قلت له: "هل تستطيع إحصاء عدد الحوائط في المدرسة؟"، أجاب مستغربًا: "لو طلبت مني ذلك سأفعل"، فقلت: "افعل، ثم اختر أي حائط تريده لتضرب رأسك فيه".

أنا هنا فوق الكرة الأرضية منذ إحدى وثلاثين سنة، ولا أعلم إن كان قد بقي لي نفس العدد أو أكثر أو أقل، لكنني أعلم أني لن أمضي ذلك العدد المجهول من السنوات المتبقية إرضاء لفلان أو غيره، لدي أمور أكثر أهمية من تقفّي رضا من هبّ ودبّ.

قرأت مرة أنه من أساليب التربية السليمة أن نعوّد أبناءنا على عدم إرضاء الجميع، فمثلًا: حين يطلب طفل لعبة من ألعاب (جمانة)، وهي لا تريد إعطاءه؛ فمن الخطأ أن أجبرها على إعطائه إرضاء له أو لوالديه، فما دامت لا تريد فذاك شأنها، وليعلم من لا يعلم أن من عواقب إجبار الطفل على كسب رضا من حوله إضعاف شخصيته مستقبلًا، ولن يستطيع لاحقًا قول كلمة (لا)، وسيرضى بكل ما يطلب منه ولو لم يعجبه، وسيبتزّه الآخرون بغضبهم منه.

أذكر جيدًا كلمة: (حبًا وكرامة)، تلك التي سمعناها في المسلسلات التاريخية أو الكرتونية في طفولتنا، تلك الكلمة التي تقال إجابة على طلب أو أمر من شخص لآخر، ولو تأملت معناها لوجدته جميلًا: (حبًا) مني لك، ثم (كرامة) لك ولمكانتك عندي فإني سأطيعك وأعطيك ما طلبت، فالمنة للمطلوب وليس للطالب، أما المبتزون فيريدون أن يقلبوا الأمر ويجعلوا الفضل لهم بأن طلبوا ولم يغضبوا من المطلوب.

يبقى سؤال يجهل إجابته جمع من الناس: "لو دعاك شخص إلى مأدبة، فمن صاحب الفضل هنا؟"، برأيي أنه لا فضل لأحد على أحد، فصاحب الدعوة كريم بماله، وملبّي الدعوة كريم بتقديره وبوقته، أما لو أردنا تصغير عقولنا لأن أحد الطرفين طفل بفعله؛ فنقول: "الملبّي للدعوة هو صاحب الفضل، لأنه سيجود بما لا يعوّض ولا يعود، وهو الوقت، أما الداعي فلم يبذل سوى المال، وبدل المال مال آخر، هو من الأشياء سهلة التعويض".

وبناء على ذلك؛ لا يحق لصاحب الدعوة أن يغضب إن لم تُجب دعوته، وللمتخلف العذر دائمًا، خاصة لو لم تكن الدعوة على شرفه، وليس للمدعو أن يجبر نفسه على تلبية دعوة يريدها أو لا يستطيع تلبيتها.. فقط ليرضي أحدًا.

أثبتت الدراسة التي أخرجتها للتو من جيبي أن من أسباب السعادة أن نفعل ما نريد، وأن نرضي أنفسنا أولًا ثم الآخرين، وبطبيعة الحال فإن الأم والأب ليسا من الآخرين، وكذلك أقرباء الدرجة الأولى جميعًا.

وهناك شرط يجب تحقيقه قبل إرضاء أنفسنا رغمًا عن رضا الآخرين، وهو ألا يخالف الدين أولًا، ولا العُرف المقبول ثانيًا، وما سوى ذلك فإننا نقول لمن غضب لراحتنا: "اختر حائطًا لتضرب رأسك فيه".

سعد المحطب
26-8-2018

هناك تعليق واحد: