الأربعاء، 19 سبتمبر 2018

(البُجّي) الأرستقراطي


(البُجّي) الأرستقراطي

في أيام غابرة مضت، وسنين خداعات انقضت؛ كنت معلمًا في إحدى المدارس، ولكوني حازمًا شديدًا؛ فقد كنت من المفضلين لدى المدير المساعد في الإشراف على الأجنحة، وكان يحب أن يعطيني أصعبها على الإطلاق: جناح الصف العاشر، الطلاب الذي أتوا للتو من المرحلة المتوسطة المليئة باللعب والطفولة والتراخي في النظام.

رأيت طالبًا بقصة شعر مخالفة للنظام، فضلًا عن كونها من خوارم المروءة، ولو كان الأمر بيدي لرددت شهادة كل من يقوم بها ما لم يتب، ويشهد له بالاستقامة أربعة رجال عدول من ذوي (القرعة).

أخرجته من الفصل، وطلبت منه ألا يأتي غدًا إلا وقد أصلح ما أفسده الحلاق، فهز رأسه موافقًا، وفي اليوم التالي أتى دون أن يصلح شيئًا، لأكتشف أن الفساد كان فيه هو، فطردته من الجناح إلى الإدارة، وطلبت من الاختصاصي الاجتماعي أن يتصل بأبيه ليأخذه، فلا مكان في جناحي لهذا الصنف.

وفي اليوم الثالث أعاد الكرّة، لأكتشف أن الخلل ليس في الحلاق، ولا فيه هو لوحده، بل في أهله الذين سمحوا لولدهم المراهق أن يأتي للمدرسة بمنظر غير رجولي.. رغم علمهم بعدم قبول المدرسة بهذا المنظر، فطردته.

أتاني بعد طرده بدقائق شامخًا، رافعًا أنفه ونافخًا صدره، وبيده ورقة صغيرة تسمح له بالدخول، وعليها ختم المدير المساعد الآخر، غير الذي يحب حزمي وشدتي.

أمسكت الورقة، مزقتها، ومريتها أجزاءها الأربعة بالحاوية القريبة مني، ثم طردته، فأتاني بعدها بدقائق بصحبة صاحب الورقة، فأمر بدخوله، ورفضت لأني (مدير الجناح)، كما يسمينا المدير المساعد الأول، فقال: "أنا أعلى منك منصبًا، اترك الإشراف واذهب لقسمك"، ثم وضع يده على ظهري ليدلني على الطريق، دفعت يده، وصرخت في وجهه: "لا تلمس، وتكلم باحترام، والطالب لن يدخل ما دمت في المدرسة".

لحسن حظه فقد مرّ المدير المساعد الأول، محب الحزم والشدة، وسمع الصراخ، فحاول تهدئتي، وقام بحل وسط يرضينا كلينا، طرد الطالب من الجناح إرضاء لي، وأبقاه في (معتقل) المدرسة إرضاء لنظيره.

عدت لمكتبي (في الإشراف وليس القسم)، وكتبت شكوى موجهة لمدير المدرسة، ما أزال محتفظًا بنسخة إلكترونية منها، أهم ما جاء فيها أن المدير المساعد تعمد إهانتي أمام الطالب، وحاول دفعي بقوة لولا أني حذرته، وإن لم يُتّخذ إجراء داخلي لهذا الفعل فإني سأصعد الأمر لمن هو أعلى، وقد تصل للوزير.

لن أقول دقائق، بل هي ثوانٍ، أتاني بعدها المشكي بحقه معتذرًا، ويعد أنه لن يكرر فعلته، فقبلت اعتذاره بشرط ألا يتدخل بعملي ثانية، وهو ما فعله لطيب أصله وحسن أخلاقه، وألتمس له العذر فيما فعله سابقًا.

علو المنصب أمر ليس من الأهمية بشيء، ولا يعطي بحال من الأحوال الحق بإهانة من هم دون ذلك المنصب، ينطبق هذا القول على كل مكان، خاصة في الوظائف الحكومية التي يعلو بها منصب الشخص منا بمجرد مرور الزمن، الأقدم هو الأعلى دائمًا، طبعًا في حال تساوي الشهادات.

في بعض الحالات الشاذة؛ نجد الأعلى منصبًا يقنعون أنفسهم أنهم أعلى في كل شيء، فيحتقرون مرؤوسيهم، ويتعاملون معهم كما يتعامل الأرستقراطي مع فلاحيه، ويتصاغرون أمام رؤسائهم كما يتصاغر (البُجّي) أما (البوليسي)، وهكذا تستمر السلسلة من المرضى والحمقى.

تظهر أخلاق صاحب المنصب حين يتعامل مع مرؤوسيه، ولو تذرّع بأنه حازم وشديد (محاولًا التشبه بي)؛ فإننا نطلب منه أن يتصرف بهذا الحزم مع رؤسائه، وسيظهر كذبه حتمًا، فالبُجّي لا يقوى على عداوة البوليسي، هكذا قضت حكمة الله.

يقول صديقي (فاروق جويدة) في قصيدته المشهور:

اغضب
فإن الله لم يخلق شعوبًا تستكين
اغضب
فإنك إن ركعت اليوم
سوف تظل تركع بعد آلاف السنين

أخطأت كثيرًا في عملي، فمن الذي لا يخطئ؟ لكني لم أقبل لأحد رؤساء الأقسام أو المديرين أن يقللوا من قيمتي، بل كنت أرد عليهم بما يعينني ربي عليه، وأسترد حقي كاملًا إن كان لي حق، وأتنازل إن لم يكن في التنازل ضرر لي، أحافظ على (شعرة معاوية) بيني وبين الأقدم مني في العمل.

يمتلئ حاسوبي الخاص بشكاوى قدمتها ضد زملاء ورؤساء ومديرين، ولي في المحكمة قضيتان حتى الآن، ما دمنا في دولة تحتكم للقانون فإنه حامينا بعد الله من بطش المستبدين، الشكاوى والقضايا سيُفصل في أمرها عاجلًا أو آجلًا، لتطل.. لا بأس، البأس في أن تضيع كرامات الموظفين تحت بند: "أخاف على تقييمي نهاية العام"، أو تحت بند (التعاون)، وأهل ميدان التربية يعلمون مقصدي بهذا البند جيدًا.

اغضب أيها الموظف، وابصق بشكوى رسمية على وجه رئيسك المستبد، فإنه بخنوعك سيستفحل ويستعظم، ولن يتوقف مرضه النفسي عن النمو، ارفع شكواك لمن هو أعلى منه، أوصلها للوزير إن لزم الأمر، ثم ما المانع في أن تصل للمخافر؟ لن يقطع رزقك إلا من رزقك، ما دمت صاحب حق فأنت أقوى من في نظر (البُجّي) من (البوليسي)، وما دام هو مخطئًا فإنه أضعف من أرستقراطي تمرد عليه فلاحوه وأردوه في حقله.

سعد المحطب
19-9-2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق