الثلاثاء، 30 أكتوبر 2018

الآكلات بالأعين


الآكلات بالأعين

في قاعة قراءاتنا الإنجليزية في الجامعة قالت لي زميلة: "رأيتك من قبل، هل لك نشاطات؟"، ابتسمت ابتسامة (جوني إنجلش)، ورفعت أحد حاجبيّ قائلًا: "نعم"، وذكرت بعضها، وكان من بينها مناظرة على إحدى القنوات، فقالت: "أجل أجل، تذكرتك".

أخبرتني بعدها أنها عضوة في رابطة الأدباء، زميلة في الجامعة وفي الرابطة، "أهلًا وسهلًا، تشرفّنا"، قلت هذا قبل أن ندخل في نقاش أدبي مطوّل اكتشفت خلاله أن هناك مؤيدون لجانبي في المناظرة أكثر مما ظننت، عادت الزميلة لمنزلها، أما أنا فجلست أتغزل بأمجادي العظيمة، وأندب حظًا تسبب في تأخر تحقيق الشهرة التي سأوصل رسالتي من خلالها.

ثم تذكرت الفتاتين اللتين لا تضيّعان فرصة مروري بالقرب دون أن تأكلني أعينهما، فقلت في نفسي: "لعلهما شاهدتا المناظرة أيضًا، أو أي مقابلة سابقة، أو ربما قرأتا أحد كتبي"، فارتفعت أسهمي بعين نفسي، وزادت الثقة إلى أقصاها، وقلت مسليًا نفسي: "ربما حياؤهما يمنعهما من إبداء الإعجاب لفظًا، فكانت النظرات المتبوعة بالابتسامة رسالتهما.

ثم طرأ بيت الشعر الشهير ببالي:

إذا طلعت شمس النهار فإنها ** أمارة تسليمي عليكم؛ فسلّموا

فعلمت أن الفتاتين تسلمّان عليّ بنظراتهما بدل شمس النهار، فقلت في نفسي: "وعليكما السلام (فانزتيّ) الرائعتين"، طابت نفسي، ورضيت بالجمهور الصامت محترف لغة الأعين.

بعد أيام عدت للكويت، وأهديت رواد الديوانية نسخًا من أحد كتبي، فردّها أحدهم، وعذره أنه لن يقرأه، قلت له: "الهدية لا تُرد"، فقال: "وفّرها لغيري، أنا لا أقرأ"، سكتّ عنه، وندمت لأني أرخصت ثمينًا لمن لا يقدّره أو يستحقه.

عدت لأندب حظي من جديد، من لا أعرفهن يسلمن عليّ بأعينهن، ومن أعرف يرد هديّتي، لم يسلّني إلا يقيني بأنه في يوم من الأيام سيشتري كتبي من هو خير منه، أما هو فلن ينال إهداء واحدًا بعد اليوم؛ ولو أتى معتذرًا.

زميلة أخرى، خير من آكلات البشر بالعين، قالت لي: "كتبك رائعة، لكن ينقصك التسويق الصحيح"، فقلت: "بل ينقصني (التميلح) لدى الفتيات، هذا الفن لا أجيده ولا أحبه".

وكعادتي؛ جلست أفكّر، فخرجت بنتيجة عجيبة للتفكير: أنا لست مشهورًا لسبب كان مجهولًا، أما الآن فهو معلوم، أراد الله لي أن أنضج أدبيًا وسلوكيًا، اليوم أنا حر، أناقش وأقرأ وأقتنع، وأستطيع تغيير قناعاتي بلمح البصر، بل أستطيع نسف كل فكرة اعتنقتها يومًا وأبني غيرها، لا أحد سيلاحظ أو يلوم، فأنا أسير بين عباد الله مجهولًا، وجهلهم بي بات يعجبني.

أعرف أناسًا، ويعرفهم غيري، خلال أقل من خمس سنوات انقلبوا من حال لحال، شكلًا ومضمونًا وأفكارًا وخلقًا ودينًا، لم تثبت فيهم سوى أسمائهم.

لا ألومهم على تبدلهم، بل أشفق لحالهم أمام الناس، فلقد ظهروا بمظهر المتلوّن المتزعزع، من سيقتدي بأفكار شخص يتبدل جلده كل يوم..!! ومن سيحترم آخر يساير القطيع أينما سار..!! قطعًا لا أحد، إلا من داخل القطيع، فأفراد القطعان يعرفون بعضهم، ولا ضير عندهم من اتباع الآخرين.

أن ينجح أحد قبل النضج أمر ليس بالمحمود، بل هو من الخطورة بمكان، إذ سيتخبط كثيرًا، وسيمشي دون هدى، وسيسير -كما يصف الرافعي العقاد- على رجلين من خشب، ومن هذا التخبط أن يفعل الشخص أشياء أخرى تفيده في المجال الذي نجح فيه في البداية ثم ظهر فشله.

الأمثلة مفيدة، لذا فالمثال لهذه الحالة هو ما رأيته من إحداهن، هي تعلم أنها فشلت في مجال يُفترض فيه أن يكون فكريًا، وهو كذلك، لكنها لا تملك من الفكر ما يُظهرها على أقرانها؛ فاتجهت لمجال آخر قد تنجح فيه، وقد فعلت، فبدأت بإظهار شكلها ومفاتنها، حتى صار جمهورها بلا عدد، ثم استغلت تافهته ليغطي فشلها في الجانب الفكري، لكنه في النهاية جمهور مفاتن لا جمهور فكر.

ومثال آخر لمن سأسميه، تجاوزًا، رجلًا، إذ فشل في نفس المشروع الفكري للفتاة سالفة الذكر، فتحول بقدرة قادر إلى ما يشبه (الفاشينيستا)، وقلت (تجاوزًا) لأني لا أرى برجولة من يصنع صنيعة.

صوره باتت في كل مكان، يملؤها بابتسامات التفاؤل الكاذب، والميوعة الحقيقية التي يتمتع بها، فعن طريق الميوعة اجتذب جمهورًا ليسمع منه التفاؤل الكاذب، فيقتنع به ثم يشتري مشروعه الفكري الفاشل.

بعد تفكيري العميق بما سلف، وبالمثالين اللذين نجّاني الله من أكون نسخة ثالثة منهما؛ قررت أن أبقى مجهولًا، واتخذت قرارًا بعدم الموافقة على أي مقابلة تلفزيونية أو إذاعية، وعدم التواجد في معارض الكتاب كما كنت أفعل في السنوات الماضية، وذلك حتى إشعار آخر، حتى أنضج أكثر في قابل الأيام.

سعد المحطب
30-10-2018