الاثنين، 24 ديسمبر 2018

أتفهم البقر؟

أتفهم البقر؟
مقالة سابقة كتبتها في هذه المدونة العظيمة، فبعثت رابطها إلى من أظنهم سيقرأون ويُفتنون، وكان من بينهم شخص، غفر الله لي يوم أحسنت الظن به، لا يقرأ سوى السطور، أما ما بينها فمتروك عنده.
حادثني بأمر لا أذكره، فليس من الأهمية تذكر لغو الحديث، وبدلًا من الإطالة؛ سألته عن رأيه في المقالة إن كان قرأها، فكان كما ظننت، قرأها فور وصول الرابط إليه، أسعدتني سرعة تجاوبه، لكني حين سألته عن رأيه بدّل سعادتي حزنًا، وقلت في نفسي: "ليتك لم تقرأ".
إن السبيل الذي أسلكه في الكتابة ليس مألوفًا لدى العرب، بل إني -من غير قصد- أتّبع طريقة أجنبية، أو طريقة جديدة ابتدعتها، لا يهم المصدر، المهم أن العوام لا يفقهون كثيرًا مما أقول، وهذا أمر لا يضايقني.
قال لي سالف الذكر: "قرأت مقالتك، ولم أفهم العلاقة بين القصة التي ابتدأت بها والمتن الذي تبعها"، فقلت: "بل هناك ترابط، لكن يطول شرحه، وليس التراسل عبر الهاتف أفضل سبيل له"، وأمّلته أني سأشرح له بالتفصيل، وهذا ما لم ولن يحدث، فالجمال لا يفسّر، إما أن تأخذه كما هو، أو أن تتركه جميعًا لمن يفهمه.
أرأيت لو ألقيت عليك طرفة لا تفهمها؛ ثم شرحتها لك؟ أتراك تضحك كمن لم يحتج لتوضيح؟
يجيبني (البحتري)؛ إذ يقول:
عليّ نحتُ القوافي من مقاطعها     ***     وما عليّ لهم إن لم تفهم البقرُ
يعاني البعض غشاوة تعمي أبصارهم، فيُحرمون بفعلها من جمال لا يخفى على ناظر، وهذه الغشاوة نتيجة ترسّبات اجتمعت بفعل الزمن، ثم بفعل جرائم ارتكبوها بحق أنفسهم، فهم من قاموا بجمع القمامة الأدبية وحجبوا بها أفق الفهم عندهم.
الناس يعلمون أن الجمال لا يُرمى في الشارع، والنفيس محفوظ في أغلى الحافظات، لا يناله كل مريد، ولا تصل إليه كل يد، فمن أراده تعب لأجله، ومن استحقه عرف حلاوته، فاللذة مقرونة بالصعوبة، فكما قال (خالد الفيصل) في صدر بيته الشهير: "يا مدوّر الهيّن ترا الكايد أحلى".
يبحث أحدنا عن سخافات ليقرأها، ثم يضمها للمقروء من، ما سنسميه تجاوزًا، الكتب، تجد مكتبته عامرة لا تكاد تجد فيها فراغًا لتضع فيه ورقة، لكنك حين تتصفح، ما سنسميه تجاوزًا، الكتب؛ قد تضرب رأسك في أقرب حائط، أو تبحث عن صاحب المكتبة العامرة لتضرب رأسه هو.
لعل صاحب المكتبة أراد الوجاهة، ومن هذا الباب فقد اشترى ما لا يصلح ليكون مداسًا يوضع عند باب البيت، والمصيبة أن يقرأ هذه التُرّهات؛ فيظن نفسه قارئًا فذًا.
هذا الفذ حين تهديه كتابًا فإنه لن يفهمه، ولن يدري ما يريد الكاتب إيصاله، وقد يقول: "قرأت مقالتك، ولم أفهم العلاقة بين القصة التي ابتدأت بها والمتن الذي تبعها"، وقد يتهمك، أو يتهم الكاتب المسكين بأنه يغرّد خارج السرب، وأنه ينفخ في قربة مخرومة، أو ينادي لمن لا حياة له، لكن الصحيح أن المسكين يكتب لمن لا يقرأ، ويشرح لمن لا يفهم، ويتعب لمن لا يهتم.
هنا يتدخل (أبو تمام) ليذكرنا بما حصل له مع أحدهم يوم قيل له: "يا أبا تمام، لِمَ تقول ما لا يُفهم؟"، فقال: "لِمَ لا تفهمون ما يُقال؟".
الخلل في عدم الفهم عائد للمتلقي لا المرسل، فهو حين يمسك كتابًا فإنه أعلن استعداده ليفهم ويتقبل ما يقرأ، أو أن يناقش ويبارز الحجة بالحجة، لا أن يكون كمن يحمل أسفارًا..!! هنا أتكلم عن الكتاب الحقيقي، وليس ما أسميناه كذلك تجاوزًا.
أحمل نصيحة بجَمَل، فمن قبلها كسب الجمل بما حمل، ومن رفضها فتعسًا له، أقول: ما دام أحدنا يملك وقتًا يقرأ فيه؛ فليقرأ ما يفيد، وليعمل بما استفاد، وليترك عنه كل مائق، فإنه ساقط في وحل حماقته، منتظر لمن يسقط معه، وأرجو ألا يجد.
سعد المحطب
الكتابة: 20-12-2018
النشر: 24-12-2018

الثلاثاء، 4 ديسمبر 2018

الزرافة الطاهرة


الزرافة الطاهرة

كنت وأقراني في طفولتنا الغرّاء نتسابق في طرح النكات والألغاز التي كنا نحسبها مضحكة أو ذكية، وأستغفر الله من كل سخف نطق به لساني، أذكر منها أننا كنا نسأل: "هل الفهد أسرع أم الزرافة أطول؟"، وليتني أستطيع وصف وجوهنا التي غلبتها ملامح الانتصار، وأعيننا المتزينة بنظرة ماكرة بعد وقوع الآخر في الفخ، كنا لا نسمح له بأي إجابة عدا أن تكون من إحدى الخيارين، أيام رغم محدودية عقولنا بها؛ إلا أنها الأجمل في العمر.

كبرت في العمر كما كبر كل من قبلي، ونمى عقلي كما نمت عقول العظماء قبلي، فاصطدمت بواقع أليم يسمى (جامعة الكويت) التي كادت أن توقف نموه، ولولا فضل الله عليّ ونعمته لكنت كسائر العوام، مررت بأناس ومرّ علي آخرون، حسنهم وقبيحهم، ماكرهم وأخرقهم، ذكرهم وأثناهم، وتصنيفات آخرى لا يسع المجال لذكرها.

من الحمقى الذين عرفتهم، وما عرفت حمقهم إلا بعد معرفتي بهم، أناس دسوا السم في العسل في كثير من أقوالهم، ودعّموا بعض كلامهم بحقّ يُراد به الباطل، وكل ما سعوا إليه يصب في قاع واحد، وما ذاك إلا لخسة في أنفسهم.

في أيام الجامعة تداولنا بعض النكات السخيفة أيضًا، لكنها كانت بمستوى أعلى من الفهم، ولم نكن لنفهمها في الأيام الغرّاء، من بينها نكتة ذُكرت في حضرة أحد الحمقى: "بعض الفتيات يقيمون مشروع إفطار الصائم في الجامعة إجبارًا"، فتساءل الأحمق عن الكيفية، فأجاب صاحب النكتة: "يرتدين الثياب الفاضحة في نهار رمضان، فيفطر من يراهن".

بغض النظر عن البغيض صاحب النكتة غير المضحكة، فإن الأحمق استشاط غضبًا، واحمرّ وجهه الأبيض الناصع، وبدأ بالدفاع المستميت عن (فاعلات الخير)، حتى أن السامع ليحسبه منهن، لكن بإعمال العقل قليلًا سنعلم أنهن من أهل ناصع البياض، ولعله الآن متزوج من إحدى مشرفات مشروع الإفطار الإجباري.

العسل كان (احترام رمضان – توضيح أهمية الستر – إنكار اللباس الفاضح)، أما السمّ الذي دسّه الناصع هو مقارنته بعد تلك النكتة: "أيهما أفضل بنظركم!! متحجبة ترتدي العباءة، لكنها فاسدة أخلاقيًا، أم سافرة ترتدي البنطال الضيق، لكنها محترمة؟"، كانت إجابتي التي لم أعلنها في ذلك النقاش السقيم: "الفهد أسرع، والزرافة أطول".

مقارنتان لا رابط بينهما، فما دخل حشمة اللباس من عدمها بفساد وصلاح الأخلاق؟ المتحجبة امتثلت لأمر ربها بتغطية زينتها، أو جانب رئيسي منها على الأقل، أما السافرة فقد خالفت الأمر الوارد في الآية، ويبقى سبب مخالفتها سرًا بينها وبين خالقها ما لم تعلنه، وحسابها ليس بيد أحدنا.

وكذلك فالممتثلة لآية الحجاب نفذت ما أُمرت به، كارهة أو طائعة، مجبرة أو راضية، ليس لأحد حسابها، ولا ننزه أخلاقها، بل نحسبها طاهرة شريفة، كقرينتها السافرة المسلمة، والله حسيبهما.

الأحمق وأمثاله حين يرون من ينادي بالحجاب يصيحون ويولولون: "أتقصدون أن السافرة عاهرة؟ وأن الشرف حكر على نسائكم؟ ما هذا الدين الذي تدّعونه؟"، ثم بعد عويله ونواحه يبدأ بإعطاء النماذج على نساء قدّمن للبشرية ما قدّمنه رغم عدم ارتدائهن للحجاب، ولا مثال أحب لقلوبهم من (مارغريت تاتشر)، ولست أدري كيف يحتجون بعدم ارتداء كافرة للحجاب..!!

لا أذيع سرًا حين أخبر الحمقى أن السيدة (عائشة بنت أبي بكر) نقلت لنا رُبع العلم الشرعي، كما أقرّ بذلك (الحاكم) في كتابه (المستدرك)، ومما لا يخفى على أحد أن أمّنا (عائشة) لم تكن سافرة بطبيعة الحال، بل إنها كانت حين تدخل بيتها تشد ثيابها حياء من (عمر بن الخطاب)؛ بعد أن دُفن في بيتها بجانب صاحبيه، أيبتغي الأحمق شرفًا أكثر ممن نقلت ربع علوم الشريعة؟

على كلّ، فإن الستر واجب، والطهارة أصل في كل مسلمة، وليست حكرًا لأحد، بل إن سليم الفطرة يرجوها في كل الناس، لا أحد سيسعد بالرذيلة سوى منكوسي الفطرة، أما المسلمة فهي كبحر لا تكدره دلاء عراة الفكر من العلمانيين العرب.

سعد المحطب
4-12-2018