الثلاثاء، 4 ديسمبر 2018

الزرافة الطاهرة


الزرافة الطاهرة

كنت وأقراني في طفولتنا الغرّاء نتسابق في طرح النكات والألغاز التي كنا نحسبها مضحكة أو ذكية، وأستغفر الله من كل سخف نطق به لساني، أذكر منها أننا كنا نسأل: "هل الفهد أسرع أم الزرافة أطول؟"، وليتني أستطيع وصف وجوهنا التي غلبتها ملامح الانتصار، وأعيننا المتزينة بنظرة ماكرة بعد وقوع الآخر في الفخ، كنا لا نسمح له بأي إجابة عدا أن تكون من إحدى الخيارين، أيام رغم محدودية عقولنا بها؛ إلا أنها الأجمل في العمر.

كبرت في العمر كما كبر كل من قبلي، ونمى عقلي كما نمت عقول العظماء قبلي، فاصطدمت بواقع أليم يسمى (جامعة الكويت) التي كادت أن توقف نموه، ولولا فضل الله عليّ ونعمته لكنت كسائر العوام، مررت بأناس ومرّ علي آخرون، حسنهم وقبيحهم، ماكرهم وأخرقهم، ذكرهم وأثناهم، وتصنيفات آخرى لا يسع المجال لذكرها.

من الحمقى الذين عرفتهم، وما عرفت حمقهم إلا بعد معرفتي بهم، أناس دسوا السم في العسل في كثير من أقوالهم، ودعّموا بعض كلامهم بحقّ يُراد به الباطل، وكل ما سعوا إليه يصب في قاع واحد، وما ذاك إلا لخسة في أنفسهم.

في أيام الجامعة تداولنا بعض النكات السخيفة أيضًا، لكنها كانت بمستوى أعلى من الفهم، ولم نكن لنفهمها في الأيام الغرّاء، من بينها نكتة ذُكرت في حضرة أحد الحمقى: "بعض الفتيات يقيمون مشروع إفطار الصائم في الجامعة إجبارًا"، فتساءل الأحمق عن الكيفية، فأجاب صاحب النكتة: "يرتدين الثياب الفاضحة في نهار رمضان، فيفطر من يراهن".

بغض النظر عن البغيض صاحب النكتة غير المضحكة، فإن الأحمق استشاط غضبًا، واحمرّ وجهه الأبيض الناصع، وبدأ بالدفاع المستميت عن (فاعلات الخير)، حتى أن السامع ليحسبه منهن، لكن بإعمال العقل قليلًا سنعلم أنهن من أهل ناصع البياض، ولعله الآن متزوج من إحدى مشرفات مشروع الإفطار الإجباري.

العسل كان (احترام رمضان – توضيح أهمية الستر – إنكار اللباس الفاضح)، أما السمّ الذي دسّه الناصع هو مقارنته بعد تلك النكتة: "أيهما أفضل بنظركم!! متحجبة ترتدي العباءة، لكنها فاسدة أخلاقيًا، أم سافرة ترتدي البنطال الضيق، لكنها محترمة؟"، كانت إجابتي التي لم أعلنها في ذلك النقاش السقيم: "الفهد أسرع، والزرافة أطول".

مقارنتان لا رابط بينهما، فما دخل حشمة اللباس من عدمها بفساد وصلاح الأخلاق؟ المتحجبة امتثلت لأمر ربها بتغطية زينتها، أو جانب رئيسي منها على الأقل، أما السافرة فقد خالفت الأمر الوارد في الآية، ويبقى سبب مخالفتها سرًا بينها وبين خالقها ما لم تعلنه، وحسابها ليس بيد أحدنا.

وكذلك فالممتثلة لآية الحجاب نفذت ما أُمرت به، كارهة أو طائعة، مجبرة أو راضية، ليس لأحد حسابها، ولا ننزه أخلاقها، بل نحسبها طاهرة شريفة، كقرينتها السافرة المسلمة، والله حسيبهما.

الأحمق وأمثاله حين يرون من ينادي بالحجاب يصيحون ويولولون: "أتقصدون أن السافرة عاهرة؟ وأن الشرف حكر على نسائكم؟ ما هذا الدين الذي تدّعونه؟"، ثم بعد عويله ونواحه يبدأ بإعطاء النماذج على نساء قدّمن للبشرية ما قدّمنه رغم عدم ارتدائهن للحجاب، ولا مثال أحب لقلوبهم من (مارغريت تاتشر)، ولست أدري كيف يحتجون بعدم ارتداء كافرة للحجاب..!!

لا أذيع سرًا حين أخبر الحمقى أن السيدة (عائشة بنت أبي بكر) نقلت لنا رُبع العلم الشرعي، كما أقرّ بذلك (الحاكم) في كتابه (المستدرك)، ومما لا يخفى على أحد أن أمّنا (عائشة) لم تكن سافرة بطبيعة الحال، بل إنها كانت حين تدخل بيتها تشد ثيابها حياء من (عمر بن الخطاب)؛ بعد أن دُفن في بيتها بجانب صاحبيه، أيبتغي الأحمق شرفًا أكثر ممن نقلت ربع علوم الشريعة؟

على كلّ، فإن الستر واجب، والطهارة أصل في كل مسلمة، وليست حكرًا لأحد، بل إن سليم الفطرة يرجوها في كل الناس، لا أحد سيسعد بالرذيلة سوى منكوسي الفطرة، أما المسلمة فهي كبحر لا تكدره دلاء عراة الفكر من العلمانيين العرب.

سعد المحطب
4-12-2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق