أتفهم البقر؟
مقالة سابقة
كتبتها في هذه المدونة العظيمة، فبعثت رابطها إلى من أظنهم سيقرأون ويُفتنون، وكان
من بينهم شخص، غفر الله لي يوم أحسنت الظن به، لا يقرأ سوى السطور، أما ما بينها
فمتروك عنده.
حادثني بأمر لا
أذكره، فليس من الأهمية تذكر لغو الحديث، وبدلًا من الإطالة؛ سألته عن رأيه في
المقالة إن كان قرأها، فكان كما ظننت، قرأها فور وصول الرابط إليه، أسعدتني سرعة
تجاوبه، لكني حين سألته عن رأيه بدّل سعادتي حزنًا، وقلت في نفسي: "ليتك لم
تقرأ".
إن السبيل الذي
أسلكه في الكتابة ليس مألوفًا لدى العرب، بل إني -من غير قصد- أتّبع طريقة أجنبية،
أو طريقة جديدة ابتدعتها، لا يهم المصدر، المهم أن العوام لا يفقهون كثيرًا مما
أقول، وهذا أمر لا يضايقني.
قال لي سالف
الذكر: "قرأت مقالتك، ولم أفهم العلاقة بين القصة التي ابتدأت بها والمتن
الذي تبعها"، فقلت: "بل هناك ترابط، لكن يطول شرحه، وليس التراسل عبر
الهاتف أفضل سبيل له"، وأمّلته أني سأشرح له بالتفصيل، وهذا ما لم ولن يحدث،
فالجمال لا يفسّر، إما أن تأخذه كما هو، أو أن تتركه جميعًا لمن يفهمه.
أرأيت لو ألقيت
عليك طرفة لا تفهمها؛ ثم شرحتها لك؟ أتراك تضحك كمن لم يحتج لتوضيح؟
يجيبني (البحتري)؛
إذ يقول:
عليّ نحتُ القوافي
من مقاطعها *** وما عليّ لهم إن لم تفهم البقرُ
يعاني البعض غشاوة
تعمي أبصارهم، فيُحرمون بفعلها من جمال لا يخفى على ناظر، وهذه الغشاوة نتيجة
ترسّبات اجتمعت بفعل الزمن، ثم بفعل جرائم ارتكبوها بحق أنفسهم، فهم من قاموا بجمع
القمامة الأدبية وحجبوا بها أفق الفهم عندهم.
الناس يعلمون أن
الجمال لا يُرمى في الشارع، والنفيس محفوظ في أغلى الحافظات، لا يناله كل مريد،
ولا تصل إليه كل يد، فمن أراده تعب لأجله، ومن استحقه عرف حلاوته، فاللذة مقرونة
بالصعوبة، فكما قال (خالد الفيصل) في صدر بيته الشهير: "يا مدوّر الهيّن ترا
الكايد أحلى".
يبحث أحدنا عن
سخافات ليقرأها، ثم يضمها للمقروء من، ما سنسميه تجاوزًا، الكتب، تجد مكتبته عامرة
لا تكاد تجد فيها فراغًا لتضع فيه ورقة، لكنك حين تتصفح، ما سنسميه تجاوزًا،
الكتب؛ قد تضرب رأسك في أقرب حائط، أو تبحث عن صاحب المكتبة العامرة لتضرب رأسه
هو.
لعل صاحب المكتبة
أراد الوجاهة، ومن هذا الباب فقد اشترى ما لا يصلح ليكون مداسًا يوضع عند باب
البيت، والمصيبة أن يقرأ هذه التُرّهات؛ فيظن نفسه قارئًا فذًا.
هذا الفذ حين
تهديه كتابًا فإنه لن يفهمه، ولن يدري ما يريد الكاتب إيصاله، وقد يقول:
"قرأت مقالتك، ولم أفهم العلاقة بين القصة التي ابتدأت بها والمتن الذي
تبعها"، وقد يتهمك، أو يتهم الكاتب المسكين بأنه يغرّد خارج السرب، وأنه ينفخ
في قربة مخرومة، أو ينادي لمن لا حياة له، لكن الصحيح أن المسكين يكتب لمن لا
يقرأ، ويشرح لمن لا يفهم، ويتعب لمن لا يهتم.
هنا يتدخل (أبو
تمام) ليذكرنا بما حصل له مع أحدهم يوم قيل له: "يا أبا تمام، لِمَ تقول ما
لا يُفهم؟"، فقال: "لِمَ لا تفهمون ما يُقال؟".
الخلل في عدم
الفهم عائد للمتلقي لا المرسل، فهو حين يمسك كتابًا فإنه أعلن استعداده ليفهم ويتقبل
ما يقرأ، أو أن يناقش ويبارز الحجة بالحجة، لا أن يكون كمن يحمل أسفارًا..!! هنا
أتكلم عن الكتاب الحقيقي، وليس ما أسميناه كذلك تجاوزًا.
أحمل نصيحة
بجَمَل، فمن قبلها كسب الجمل بما حمل، ومن رفضها فتعسًا له، أقول: ما دام أحدنا
يملك وقتًا يقرأ فيه؛ فليقرأ ما يفيد، وليعمل بما استفاد، وليترك عنه كل مائق،
فإنه ساقط في وحل حماقته، منتظر لمن يسقط معه، وأرجو ألا يجد.
سعد المحطب
الكتابة: 20-12-2018
الكتابة: 20-12-2018
النشر: 24-12-2018
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذف