الخميس، 26 سبتمبر 2019

اعترافات المارينز


اعترافات المارينز

حملت سنة (2015) لي الخير الكثير، ومن ذلك الخير ولادة (جمانة) التي لن أتطرق لها، وأيضًا نجاحي في شراء راحتي يوم بدأت العام الدراسي بعيدًا عن مدرستي السابقة، أصبح مكان عملي أقرب لسكني، ومديري مجهول بالنسبة لي، ومهما بلغ من سوء فلا أظنه سيصل معشار ما عليه مديري السابق.

عانيت كثيرًا في البداية من سوء الإدارة في مدرستي الجديدة، إذ يرى المدير أن الطالب لا يُمس، فلتقم الدنيا ولا تقعد.. لأجل طالب يريد ممارسة حقه المكتسب في الغش والإساءة للمعلم، في بادئ الأمر كنت ممن حاول الطلاب الإساءة لهم، فأعطيت كلًا حجمه، وأوقفته عند حده، وكادت السنة الدراسية أن تمر على خير لولا أني سمعت أثناء أحد دروسي (شيلة) من هاتف مجهول المكان والمالك.

أوقفت الدرس، سألت عن المصدر؛ فلم يجبني أحد، هممت بالخروج من الفصل، وأخبرت الطلاب أنهم يملكون (10) دقائق للاعتراف، وبعدها سأعود لأبشرهم بنيلهم جميعًا درجة (صفر) في أعمال الفترتين الثالثة والرابعة، بالإضافة إلى كتابة تقرير بحق الجميع ليُتّخذ قرار الفصل بحقهم، وأني أعرف طريق الشكوى على المدير إن لم ينفذ ما أريد.

لم أصل حتى إلى منتصف الطريق، قبل وصولي لممر قسمي؛ سمعت طالبًا يناديني ويعترف بخطئه، ثم سلمني هاتفه واعتذر بأدب لم أستغربه منه، عدت للفصل، وأكملت الشرح، وبعد انتهاء وقت الدرس أعدت الهاتف إلى صاحبه بعد أن وعدني أنها ستكون الأخيرة، ومضت باقي السنة الدراسية على ما تشتهيه النفس، في الغالب.

هل أخطأت بذلك التهديد؟ هكذا سألت نفسي، نعم أخطأت، هكذا أجبتها، وكان الخطأ سيعظم أكثر وأكثر لو أن الطالب لم يعترف ولم أنفذ تهديدي، لكني كنت أنوي إنفاذه لو لم يفعل، أما الخطأ فكان أني أردت أخذ الجميع بجريرة الواحد، وهم الذين انقسموا إلى أقسام لا تجب معاقبتها جميعًا، فقسم هم أصدقاء الفاعل المجهول، والصداقة تحتم الستر عليه، وقسم مستمتع بأذية المعلم، وإفشاء سر الفاعل سيمنع حدوث مضايقات مستقبلًا، وهذا سيفقدهم المتعة، وقسم أخير مغلوب على أمره، يخشون الفاعل إن كان متنمرًا، وهو كذلك في الغالب، فيفضلون الصمت ليتقوا الأذى الذي لن تحميه منه إدارات المدارس.

لكنها العجلة، قاتلها الله، هي من أجبرتني أن أتخذ قرار العقاب الجماعي، وقبل العجلة، قاتلها الله، فإن ما عاصرناه حين كنا طلابًا هو السبب الرئيس في تهديدي المتهور، فكم عوقبنا جميعًا لذنب لم نقترفه..!! كان المعلمون، ولا يزالون، يبحثون عن الحل الأسهل لإسكات الجميع، فيلجأون للعقاب الجماعي.

كيف عساني أنسى أستاذ (عبدالعزيز)، أستاذ اللغة الفرنسية ضعيف الشخصية الذي كان يشكونا لأستاذ (علي)، أستاذ التربية البدنية، صاحب الشخصية الفتّاكة..!! كنّا نتستر على من يحدث الجلبة في الفصل، وكنت أنا من القسم الثاني المستمتع، فيصلني العقاب كما يصل لـ (35) طالبًا غيري، أستاذ (علي) كان يأخذنا في حصة اللغة الفرنسية إلى صالة الرياضة لنقوم بتمارين يعجز عنها مشاة البحرية الأمريكية (المارينز)، وفي منتصف العقوبة؛ يأمر الأستاذ القسم الثاني والثالث بالصعود إلى المدرجات، ويبقى العقاب مستمرًا للقسم الأول، الذين يحوي الفاعل بطبيعة الحال.

معاقبة الجميع بخطيئة الفرد إجحاف، وظلم لا يغفره المظلوم ولو طال الزمن، بدليل أني لا أزال غاضبًا من الأستاذ (علي)، وأدعو عليه وهو موسّد في قبره، مات وما يزال ظلمه في ذهني، أذكر صراخه ودفعه لنا، ويسخن جسمي كلما تذكرت إهاناته للجميع.

كان بوسعه استخدام طريقة أفضل لمعرفة المخطئ، وهي ما قمت بها بعد إساءته لنا بأكثر من (10) سنوات، فبعد حادثة (الشيلة) قررت ألا أعود لنفس الخطأ، وحين اضطررت يومًا للتعامل مع طلاب معلم يشبه الأستاذ (عبدالعزيز) في شخصيته؛ دخلت الفصل وكلمتهم بحزم: "سأجلس في غرفة الإشراف، وستأتون إليّ واحدًا تلو الآخر، ولن يعلم أحد بما أخبرني به زميله"، الغريب أن الاعتراف كان من أول طالب دخل علي، لكني اضطررت للتظاهر بجهلي حتى دخل علي آخر طالب، ثم عدت إليهم وناديت المسيء للمعلم وعاقبته، وحتى اليوم فلا أحد من الفصل يعلم الذي أفشى سرهم المقدس.

كل ما احتاجه الأمر هو توفير بيئة آمنة للمستضعفين والمستمتعين، وتهديد صريح للفاعل وأصدقائه، وهذا ما حدث مع الجميع، كلّ على حدة، ومما هو جدير بالذكر أن أغلب الفصل اعترفوا بأن فلانًا هو الفاعل، والجميع يحسب أنه الوحيد المفشي للسر، لأني حين دخلت عليهم لأنادي المسيء؛ قلت: "أتاني اعتراف شجاع واحد، أما الباقي فكانوا جبناء لم يعترفوا، وسأصدق الشجاع الوحيد في الفصل"، فظن كل معترف أنه الشجاع المعني.

أما مقولة: "الخير يخص والشر يعم"؛ فإنها فاسدة كفساد إدارة المدرسة التي انتقلت لها، ثم انتقلت منها هربًا، فالعدل الإلهي يقتضي غير ذلك، إذ يقول الله تعالى في (سورة الإسراء، الآية 15): "من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"، ومن ذلك يكون أخذ الجميع بخطأ الواحد ظلمًا كبيرًا، على صاحبه ما يستحق.

سعد المحطب
26-9-2019

الاثنين، 19 أغسطس 2019

كل البياض


كل البياض

أجلس في غرفتي وحيدًا، أتقلب بمتعة فوق فراشي الكبير، وأقفز كما كنت أفعل صغيرًا، ثم تدخل علي أمي بطلب مكرر ألف مرة، تريدني أن أذهب لشخص يعرف أطعمة لا تسبب السمنة، رأت صورته في إعلان ضخم في الشوارع، فأصرّت كثيرًا أن تأخذني إليه.
العمارة ضخمة وتحوي محلات كثيرة، وعلى أحدها صورة شخصين متشابهين كثيرًا، ربما هما توائم، لكن أحدهما في الصورة سمين جدًا، وأخوه النحيل في الصورة المقابلة يمسك سروال أخيه ويضحك، سأحافظ على أغراضي حين أعود للبيت، لا أريد أن يسرقها أخي ويصور بها.
كل الذين في المحل يملكون أجسامًا تشبه جسم صاحب الصورة عند الباب، وأنا أيضًا يسمونني سمينًا.. ووزني لم يصل إلى (80 كجم)، الناس غريبون باتهاماتهم، لقد أجبروا أهلي على إجباري أن آتي إلى تاجر السمنة ليخبرني كيف وماذا آكل، أمي في طفولتي لم تتدخل، وهذا الأصلع في الإعلان الكبير يريد التدخل.
أنا اليوم في زيارتي الأولى، أجلس في غرفة الانتظار شديدة البياض، كل شيء فيها بلون قلبي، هكذا أخبرتني أمي، تقول أنها تحبني، وأنا أصدقها، فهي لا تتركني أخرج وحدي أبدًا، ولو خرجنا فإنها تتولى الحديث نيابة عني، أستطيع الحديث وأعرف استخدام كلماتي، لكني كلما تحدثت مع شخص فإنه إما أن يكون أصمًا أو ضعيف السمع، أو متخلفًا عقليًا، لا يفهم كلامي سوى أمي، أحيانًا أصدقها حين تقول أن الأذكياء لا أحد يفهمهم، وأحيانًا أحس أن لساني الثقيل هو السبب.
موظفة الاستقبال تبتسم بوجهي كلما رأتني، وكذلك الفتاة العملاقة الجالسة أمامي، أما الرجل السمين عند الباب فإنه يتصرف كأنه لا يراني، كلما رأيت رجلًا في محل التاجر الأصلع رأيته سمينًا، ربما لا يسمح بدخول النحيلين، أظنه تجمعًا لذوي القلوب البيضاء.
كل الناس هنا يشبهون بعضهم، إلا أنا أراني مختلفًا عنهم، ربما لأن الله يحبني، كما أخبرتني أمي، فقد ميزني عنهم بالشكل، أعينهم كبيرة تشبه عيني (وسيم)، أما أنا فأشبه (مجد) في عينيها.
نادت المرأة المرتدية للبياض اسمي، وطلبت أن تقيس وزني وطولي، ميزانهم لا يعمل كما يجب، وزني لم يتجاوز الثمانين، أمي تقول ذلك، أما المرأة فقد أخبرتنا أن وزني (110 كجم)، وطولي (165 سم)، ربما لساني الثقيل الذي لا أستطيع إدخاله في فهمي هو السبب في الزيادة هذه، لكني سعيد بطولي، رغم أن رقبتي قصيرة جدًا، أمي أخبرتني أن الله أخذ رقبتي ليخبئها لي في بيتنا في الجنة، ابتسمت تلك المرأة، وقرصت خدي بقوة، ثم قالت لأمي: "أطفال الداون هم أحباب الله".
شكرًا لأمي لأنها تساعدني كل يوم في كتابة يومياتي، هي الوحيدة التي تفهمني دون أن أعيد كلامي.
سعد المحطب
16-8-2019

الأربعاء، 17 يوليو 2019

(ديزني) وعشاء الآداب


(ديزني) وعشاء الآداب
ارتديت أجمل حُلة أملكها، ووضعت محفظتي الخالية من النقود في جيبي الأيسر، ونظارتي البرّاقة فوق رأسي ريثما أخرج من البيت، ثم رششت نصف قارورة العطر على أنحاء جسمي، وسلّمت على أمي سلام من سيراها بعد قليل.
اتجهت إلى كلية الآداب لحضور محاضرة في يومي الجامعي الثاني، لكني وجدت ورقة اعتذار معلقة على الباب، فسألت من لا أعرفهم إن كان هذا أمرًا طبيعيًا؛ فأجابوا بالإيجاب، فدعوت الله مخلصًا أن تكثر الاعتذارات ما شاء لها أن تكثّر.
عدت للبيت؛ فتفاجأت أمي من عودتي بعد خروجي بأقل من ساعة، فاعترفت مفتخرًا أني قدت السيارة بسرعة (160-180)، وصادف تهوّري تسيّبًا من الدكتور، فعدت بهذه السرعة.
في مساء ذات اليوم كنت مدعوًا إلى عشاء مقام على شرف مستجدّي كلية الآداب، آخر شيء أذكره أني أخرجت السيارة من تحت المظلة، ولما فتحت عينيّ وجدتني في المستشفى إثر حادث نتج، في الغالب، من تهوّري، وحقيقة لا أذكر إن كنت متهورًا أم لا.
سألت الطبيب عن أثر العملية في ساعدي الأيسر؛ فاستسخفه واستسهل أمره: "يمكنني إزالته بعملية تجميل بسيطة متى أردت"، لكني لم أسأل لأزيلها، بل سألت خشية أن تزول لوحدها، فاطمأنت نفسي أن أثرًا كهذا لا يزول إلا بعملية أخرى، وهذا ما لن أقدم عليه.
في ذلك العمر الصغير الذي لم يتعدّ (18) سنة؛ ذكرت قصة الحادث لصديق، فسألني عن سبب عدم إزالة الأثر، فقلت: "نحن في الجامعة، والفتيات يملأن المكان، وهن يُعجبن بذوي الجروح والندوب البارزة"، فحسدني على ندبة لم تكلفني شيئًا عظيمًا، وكلفت والدي سيارتين، الأولى الهالكة، والأخرى البديلة، لا شيء آخر يُذكر.
لم يكن ذلك السبب حقيقيًا بطبيعة الحال، الحقيقة أني أردتها عبرة لأولادي في قابل السنوات، أريدهم أن يلتزموا بقواعد السلامة المرورية، وأن يربطوا الأحزمة مهما قصُر المشوار، وأن يلتزموا بالسرعة القصوى المحددة، تمامًا كما أفعل منذ ذلك الحادث الذي كان في عام (2005).
بعد الحادث بعشر سنوات؛ رُزقت (جمانة)، وفي عامها الثاني لاحظت الأثر القديم، سألتني عنه، فأخبرتها القصة وفق ما يناسب عقلها، ومنذ إخباري لها؛ لم تركب السيارة دون حزام إن كان المشوار قصيرًا، أما إن كانت وجهتنا بعيدة فإنها لا تجرؤ على الركوب في المقعد الأمامي.
كنت أستطيع إزالة الأثر بعد العملية بشهر، لكني خططت لأمر بعيد قد لا يحدث، فتركت الخطة قائمة من باب الاحتياط، إن حدثت كان بها، وإن لم تحدث فلن تشوهني ندبة الساعد، وإزالتها لن تزيدني حسنًا، وقد جرت الخطة وفق ما رجوت، وآتت ثمارها.
بعض الأمور يمكن أن تسير بسلام، لكن النتائج لن تعدو أن تكون (عادية)، كما نفعل في كثير من أمورنا، كخروج أحدنا لنزهة صباحية دون تحديد وجهة، الأمر ليس جللًا، لا بأس.
الجلل أن نجد أحدنا يعلن عن رغبته بأمر مصيري فكّر بخطوته الأولى، أما الخطوة الثانية فما تزال مجهولة، كمن استخرج رخصة دار نشر للكتب، واعتمد على (كُويُتب) واحد، وأنفق كثيرًا من أمواله لجلب آخرين يكسب من وراء مبيعاتهم، فلم يصمد أكثر من سنتين، وأغلق مشروعه الفاشل.
صديقنا هذا يملك مالًا وفيرًا، لكنه فقير في التخطيط، سار بلا مخطط في مشروع أدخل آخرين إلى نادي المليونيرات، أما هو فقد خرج من الباب الخلفي للنادي مدحورًا مخذولًا.
في مقابل صديقنا الأحمق؛ فإن (دياني ديزني) حين رأت مدينة الملاهي الأشهر في العالم، قال لها أحد المهندسين: "للأسف فإن والدك لم يعش ليرى المدينة كما هي الآن"، فقالت: "بل لقد رآها، كان يتخيلها كل يوم تجتذب السياح من كل العالم".
فرق عظيم بين من سار وفق مبدأ (البركة)، ومن سار وفق مبدأ (التخطيط)، في هذا المعنى نجد (ستيفن كوفي) قد قال في العادة الثانية: "ابدأ، والنهاية في ذهنك".
إن عملًا لا ندري ما نهايته؛ الأفضل ألا نبدأ به، وإلا لن نختلف عن حال لاعب (الكجوكمبو) الذي نازلني دون أن يعد العدة لهذا اليوم، ولم يخضع لتدريب مكثف ولم يلتحق بمعسكر، نازلني معتمدًا على حزامه المتقدم علي، ونازلته وفق خطة اعتمدت على تسرّعه الواضح، فكان كلما رفع رجله ليركلني؛ أمسكتها وأسقطته، فصرعته وسحقته بفارق نقطة واحدة، صحيح أنه فارق لا يُذكر، لكنه كان كفيلًا بمنحي الميدالية الذهبية.
ولا أعني بحال من الأحوال أن نعمل كالحواسيب، فلا نتحرك شبرًا إلا وفق خطة، وإنما الأعمال التي تتطلب جهدًا ووقتًا ومالًا، وتترتب عليها أمور مصيرية أو مهمة؛ هي فقط ما تستوجب التخطيط، وبالنسبة لي فإني كثيرًا ما أخرج من البيت دون دراية عما أريده، فأستمتع في غالب الأحيان للصدف المخبأة لي في يومي.
سعد المحطب
17-7-2019

الخميس، 20 يونيو 2019

عقدة (الأوغر)


عقدة (الأوغر)
في نهاية التسعينيات، حزنت كثيرًا لما علمت أن (فتحي كميل) لبس فنيلة المنتخب الكويتي وكان عمره (17) سنة، فقد كان طموحي أن أكون أصغر لاعب يصل للمنتخب بتاريخ الكويت، فقررت أن أصل إليه بعمر (16) سنة، وهذا ما لم يحصل، ولو حصل لكنت الآن على ألفظ أنفاسي الأخيرة رياضيًا، بل ربما كانت الجماهير ستتحد وتكتب تحت وسم #الشعب_يطالب_سعد_بالاعتزال.
أما ثاني أحزاني فكان يوم فتحت الجريدة يومًا؛ فوجدت فتاة بعمري قد أصدرت كتابها الأول، وكان ديوان شعر، وما أزال أحفظ اسمها، لكني لن أذكره هنا، حزنت مرة أخرى، فقد كنت أطمح أن أكون أصغر كويتي يصدر كتابًا من تأليفه، كان عمري وقتها (15) سنة، ضاع هذا الحلم.
قررت في سنتي قبل الأخيرة في الثانوية أن أجتهد لأنال المركز الأول على الكويت في الثانوية العامة، لكن ليس لكل مجتهد نصيب، فمعدلي في النهاية بالكاد سمح لي بدخول الجامعة، وهذا أمر ثالث أحزنني.
في الجامعة، كنت من القلة الذين لم يروا معدلهم يصل إلى (3) نقاط طوال السنوات الأربع.. رغم سهولة الدراسة، وكان ذلك على الرغم من أني كنت أخطط لأكون من الأوائل، وممن ينالون تكريم سمو الأمير، وبما أن الأمر لم يسر كما خُطط له؛ فقد أعلنت حزني للمرة الرابعة.
بعد تأليفي لكتابي الأول أخيرًا؛ حققت أعلى مبيعات بالنسبة لدار النشر، لكن في معرض الشارقة فقط، أما في الكويت فقد أحرزت رقمًا متأخرًا، وبعد انتهاء المعرض كان لزامًا عليّ أن أظهر حزني، عددت مرّات الحزن فوجدتها الخامسة.
جدي -رحمه الله- يكبر أبي بثلاثين سنة، وأبي يكبرني بمثلها، وتمنيت أن يكون لي ولد أكبره بنفس المدة، وهذا ما لم يحدث، حسنًا، لأي رقم وصلنا؟ نعم، هذا حزني السادس.
لدى بلوغي الثلاثين، قررت أن تنتهي أحزاني المرقّمة، وأن أجعلها عشوائية بلا تعداد، تأتي وتذهب بلا اهتمام من شخصي الكريم، فكل أحزاني الستة تافهة، بعد أن أتجاوزها بقليل أدرك كم كنت مخطئًا، ولم أستطع تجاوز كل ذلك إلا بعدما تخلصت بشكل رمي من عقدة (الأوغر)*، فاستقرت حياتي من حينها، واطمأنت نفسي، وهدأت روحي.
سألت نفسي عن أهمية أن أكون (أول) من ينجز أمرًا، لم أجد إجابة تقنعني، فسألت عن سبب حرصي السابق على أن أكون (أصغر) من ينال شيئًا، كذلك لم أجد سببًا يفيدني، فتركت الأمور تجري في أعنّتها، وتركتها قدريّة تأتي على مهل، لم أعد أستعجلها ولا أستجديها.
وبالعودة إلى أحزاني السابقة، فإنني أحللها واحدة تلو أخرى، فأقول:
     ·        (فتحي كميل) لبس فنيلة المنتخب بعمر (17) سنة، لكنه لم ينل نجاح (جاسم يعقوب) الذي لبس ذات الفنيلة بعمر (19) سنة، إذن فعمره الصغير لم يصنع له المجد.
·        ألّفت أول كتاب ونشرته بعمر (26) سنة، وما يزال اسمي يتردد في المعارض وفي رابطة الأدباء، أما تلك الفتاة فقد بُترت ونُسيت، وربما ماتت ولم يعبأ بها غير أهلها.
·        لا أعرف الأول على مستوى الكويت في سنة تخرجي، لكني أعرف كل من نال نسبة أعلى مني في مدرستي، كلهم الآن موظفون أو رؤساء أقسام، أما أنا؛ فأنا.
·        أذكر لوحة الشرف المعلقة في قسم علم النفس، الأول كان معدله (4) نقاط تامة، يعمل موظفًا في إحدى قطاعات النفط، استفاد من (فيتامين واو) وليس من المعدل.
·        جميع الذين حققوا أعلى مبيعات في أول معرض كتاب أشارك به كُشفت أوراقهم، وظهر سخف ما يكتبون، وهم الآن لا وجود لهم في أي منصة ثقافية، ومن ورث مكانهم سيلحق بهم قريبًا، أما أنا فأملك عضوية في رابطة الأدباء الكويتيين، وهي عصية عليهم.
·        انكسرت سلسلة الثلاثين عامًا، وحزني غير المبرر كاد ينسيني أني رُزقت فتاة تملأ قلبي وعيني وجُلّ عمري.
 
النضج قد يحتاج وقتًا ليتم، لكنه يكفل جودة في العمل لم تكن لتحصل لولاه، وهو ما قد يستغرق يومًا أو سنة، أو ربما قرنًا، المهم أنه متى ما أتى فإنه محل ترحيب، لا ضرر في التأخير، الضرر في عدم التمام، وهو ما لا يعاني منه مجتهد، بل إنه لا يحصل إلا لمن استعجل قطف الثمار قبل تمام نضوجها.

يقول الشاعر:
إني وإن كنت الأخير زمانه ** لآتٍ ما لم تستطعه الأوائل
أرى أن صديقنا الشاعر قد أوفى بما وعد، فأتى ببيت شعر لم يأتِ به أحد قبله، فقد أوجز وأبلغ، وأستغنى ببضع كلمات عن آلاف منها، تمامًا كما تفعل مقالة كهذه؛ فبها يُستغنى عن مجلدات تنادي بنفس المغزى.
نحتاج للتخلص من عقدة (الأوغر) لننجز، فالأوان لم يفت مطلقًا، ولكل شيء أوانه، إن لم يكن وقتنا الآن فإنه سيأتي لاحقًا، فالنجاح لا يرتبط بعمر أبدًا، عجوز كنتاكي (كولونيل ساندرز) نجح في عقده السابع، والصديق (باولو كويلو) نجح في العقد الخامس، والأمثلة كثيرة لا تحصى.
لا أنكر متعة التفرد، لكن عدم حصوله لا يعني التوقف عن المحاولة، فكثير من الثواني والثوالث فاقوا الأوائل، الأمر لا يرتبط دائمًا بالذكاء أو الجهد، فالحظ قد يلعب دورًا، وأحيانًا العمر، وأفضل مثال هم السفلة الذين ولاهم سبقهم الزمني عليّ، دون كفاءة أو امتياز حقيقي، العمر فقط وضعهم في ذلك المكان.
* الأوغر: كلمة منحوتة من عندي، أصلها (الأول والأصغر).

سعد المحطب
20-6-2019

الاثنين، 20 مايو 2019

السيد كامل الأوصاف


السيد كامل الأوصاف

أذكر جيدًا وقفتي أمام موظفة التوجيه والإرشاد في كليتة العلوم الاجتماعية، كانت تطلب مني، بأدب، الاستعجال بالإجابة: "هل أسجلك في مادة (الدوافع والانفعالات)؟"، كنت مترددًا لسببين، أولهما أني لا أعرف الدكتور (كامل فراج)، وثانيهما أني لم أتخيل نفسي أدرس في شعبة مخصصة للفتيات، وأنا المراهق الخجول آنذاك.

وافقت مجبرًا، لأن جدولي الدراسي كان ناقصًا، ولم تتوفر مادة مناسبة لي غير هذه، وحين بدأت المحاضرات؛ ندمت على كل لحظة تردد أبديتها، فلم أرَ شبيهًا له في علمه وأخلاقه ورُقيّه، كان مثالًا حيًا لمن يزداد تواضعه بازدياد علمه.

في اختبار المنتصف؛ مرّ بجانبي وربّت على كتفي، ثم وضع توقيعه على أول صفحة دون أن ينطق بكلمة، ثم عاد لمكانه، فوقع قلبي على الطاولة، وظهرت فيه صورة حبي الأول (منيرة)، تلك التي كانت تلعب معي في الروضة، وتنازع (سبيكة) للظفر بي، لكن هيهات لهما، فلم تظفر بي غير (أم جمانة)، والتي لم تكن وُلدت بعد، أعني في أيام نزاعات (منيرة وسبيكة) بطبيعة الحال.

رجع الدكتور (كامل) خطوتين للوراء، وأمسك قلبي ليعيده مكانه، وقال: "أنت تتأخر كثيرًا قبل أن تجيب، لأنك تظن كل سؤال يحوي بُعدًا غير ظاهر، وهذه من صفات الأذكياء، لكن اطمئن، فكل الأسئلة مباشرة، وهي سهلة كما تبدو، ولا تخفي أي خدع".

أحب الذين يحسنون الظن دائمًا، لا يعلم أني أتأخر في الإجابة لأني لم أدرس، وأرى أسئلة عن أمور لم أسمع بها يومًا، لهذا كنت أفكر بإجابات لم يسمع هو بها يومًا.

من درس عند هذا الدكتور يعلم أنه يشجع التفكير خارج الصندوق، ولا يحب ما يعتمد على الحفظ، ولن أنسى يومًا قوله: "لا أعترف بالاختبارات، لأنها فقط تقيس ما درسته بالأمس، لكن لوائح الجامعة تلزم بها"، وبعد نقلي لمقولته الحكيمة؛ هل من داعٍ لأقول أني نلت درجة الامتياز؟ فالتوقيع على الورقة لا يناله إلا من أثبت نيله المعرفة، لا المعلومات، وبفضل الله فقد كنت منهم.

في دراستي للماجستير كاد الموقف أن يكرر نفسه بالنتيجة، فقد درست في الفصل الأول لدى دكتورة تتبنى مثل فكر الدكتور (كامل)، فكما يظهر أنها لا تشجع الحفظ، وتشهد عليها اختباراتها ذات الكتاب المفتوح (Open Book)، وهذه الطريقة تقيس الفهم، حرفيًا، ولا تقيس ما حُفظ بالأمس، ولا ما خُزّن في الذاكرة دون استيعاب.

لا أعتقد بضرورة ذكر درجتي في ذلك الفصل، لكنها كانت كافية لتجعلني أترقب هذا الفصل بشغف، ولم تنفك أستاذتنا تحفزنا: “Think out of the box”، وحين أتى يوم الاختبار الفصلي؛ فكرت خارج الصندوق كما أحب دائمًا، وأجبت على سؤال بطريقة أحسبها ذكية جدًا.

كان نص السؤال ما يلي: "فلان يعاني من نوبات غضب"، وطُلب منا أن نحدد الأسباب المحتملة لتلك النوبات، فكان أول احتمال وضعته: "يعاني من التوحد"، فخسرت درجة كاملة بسبب هذه الإجابة.

سألتها عن سبب النقص، فقالت: "أنت تحتال على السؤال، اسم المادة (استراتيجيات تدريس التوحد)، فكيف تجيب بهذه الطريقة؟"، هي ظنّت أني أفسّر الماء بالماء، والحقيقة أني كنت أستفيد من كل المعارف المتاحة لأجيب بذكاء، كما ظننت، ولم أعلم أني أحتال.

أنا كغيري، أرقب يومًا لا يُحارب فيه الناجح حتى يفشل، ولا يُضرب فيه المبدع حتى يُكسر، ولا يُحبط الذكي حتى ينوخ، النجاح والإبداع والذكاء مهارات، والمهارة بطبيعتها كالعضلة، تضمر إن لم تعمل.

يفرز المخ هرمونًا اسمه (الدوبامين)، ويسمى مجازًا (هرمون التحفيز)، ومن مهامه أن يحفز الإنسان لإنجاز المهام، وإن كان إفراز (السيروتونين) يزداد بالسكّريات؛ فإن (الدوبامين) يُفرز بشكل أسهل، فالمديح الحقيقي والثناء باعتدال أمران كفيلان بزيادة إفرازه، هذه المعلومة ما أزال أذكرها منذ قالها لي الدكتور (كامل) قبل أكثر من ثلاث عشرة سنة من اليوم، ولعل علمه بهذا الأمر هو ما جعله يقول لي: " أنت تتأخر كثيرًا قبل أن تجيب، ......، وهذه من صفات الأذكياء، .....".

أعرف أشخاصًا يحقنون، بأفعالهم وأقوالهم، مضادات التحفيز بأوردة غيرهم، بل إنهم ينسفون منشأ (الدوبامين) عن بكرة أبيه، يريدون تفكيرًا معلّبًا من وسط الصندوق، بل من عمقه، ويعتبرون أي محاولة خروج من الصندوق محاولة اغتيال فكري لهم.

أصدق مثال هو ذلك الشخص الذي قال لي: "أنت كسول يا سعد، تريد درجات دون أن تدرس، وهذا أمر يضيع عليك الكثير، ادرس"، وهناك مقولة تُنسب لـ (بيل غيتس)؛ يقول: "أنا أوظف الكسول لأداء أصعب الأعمال؛ لأنه سيجد أسهل طريقة لأدائها"، وصديقي (بيل) أصدق عندي من فلان.

كسل المبدع محمود، فبه يُجبر المخ على الإتيان بغير المألوف، وفي الغالب سينظر الناس له بسلبية، وقد يراه بعض الأساتذة (محتالًا)، والأحمق فقط من يصدق ذلك، أما المبدع فسيرضى بخسارة دجات الاختبار، في مقابل الاحتفاظ بمرونة توليد الأفكار.

ولعلّي أفرد مقالًا لاحقًا عن الكسل.

سعد المحطب
1-5-2019
20-5-2019

الاثنين، 8 أبريل 2019

(دقلقني) وطقطقني


(دقلقني) ولا تحلقني

منذ تحرير الكويت، بداية التسعينيات، بدأت أخزن في ذاكرتي الأحداث وأسترجع بعضها وقت الحاجة، أما ما قبله؛ فقليل القليل منه فقط أذكره، ومما لا أنساه أن أبي كان يأخذني وأخي إلى الحلاق القريب من بيتنا ليحلق رؤوسنا.
ولأنني لست من قبيلة المجرّبين؛ فإني لم أزل أحلق عنده حتى بعد تخرّجي من الجامعة، أي أني كنت من زبائنه لأكثر من عشرين سنة، حتى أتى ذلك اليوم الذي كتب الله أن أقطع علاقتي فيه بـ (طارق) وزمرته.
كنت على موعد مع صديق، وحين اقتربت من بيته رأيت بجانبه حلاقًا من الجنسية الأفضل في هذه المهنة، هم الأفضل بلا منازع، لهذا أحترم الحلاقين الباكستانيين.
سألت صديقي: "كيف هي حلاقته؟"، فأجاب: "ممتاز، أنا أحلق عنده منذ كنت طفلًا"، فوثقت برأيه ونزلت، وما إن جلست على الكرسي ووضع الملاءة علي؛ حتى تذكرت أمرًا، فصديقي منذ عرفته لا يعرف غير (القَرعة)، ومعلوم أنها لا تحتاج إلى مهارة، ثم إنه، حتى لحظة كتابة هذا المقال، لا ينبت في وجهه شعر غير الحاجبين.
لولا الحياء لنهضت، ثم قلت في نفسي: "مجرد تحديد للحية، ولو أخطأ فلا بأس، يومان أو ثلاثة؛ وستعود كما كانت"، ثم إني أستطيع أن أقسم أني لم أرَ أحدًا بمهارته طوال حياتي، فاعتمدته ومنحته لقب: (حلّاق سعد).
كاد يقع في المحظور يومًا، والذي لا أسامح حلّاقًا عليه ولو كان ماهرًا، فحين جلست إليه لينجز عمله؛ لمح عندي منطقة حساسة، وبدأ يتلمسها ليبدي رأيه بها، وقبل أن ينطق قلت له: "لا شأن لك بالصلعة، أكمل عملك".
حاليًا أنا مقيم في البحرين للدراسة، ومما كنت قلقًا بسببه أني قد لا أجد حلّاقًا بمهارة (أمجد) حلاق اليرموك، بدأت أهيم على وجهي أسبوعيًا أجرب هذا وذاك، حتى وصلت إلى أحدهم ممن يملك مهارة متوسطة، لكنه قدم خدمة لم أجدها حتى عند (أمجد)، بل حتى (طارق) لم يقدمها يومًا، فبعد أن أنهى تحفته الفنية على وجهي؛ قال: "ريلاكس أرباب"، وبدأ يلعب برأسي يمنة ويسرة؛ وفجأة سمعت صوت طقطقة رقبتي، ثم فعلها ثانية في الجانب الآخر، فاعتمدته ومنحته لقب: (حلاق سعد في البحرين).
هو الآخر كاد يقع في المحظور، فحين رأى شعرة بيضاء حاول قصّها؛ فمنعته، وغفرت له جهله انتظاري البياض يغزو رأسي المليء بالحكم والعبر والأفكار النيّرة الخلّاقة، ليزيدني وقارًا، ويضفي عليّ هيئة الحكيم.
وبعيدًا عن الحلّاقين، أحب مداعبة (جمانة)، وكثيرًا ما تقول لي: "بابا، دقلقني"، وتعني: (دغدغني)، وهذه الحركة أقوم بها كثيرًا مع الأطفال، بمن فيهم ابنة أخت زوجتي، تلك التي كانت تظنني خطفت خالتها منها حين تزوجتها، فأظهرت لي عداء غير مبرر، وحين بدأت أدغدغها أحبتني، بل إنها صارت تأتي إليّ راكضة لأحملها كلما رأتني.
وعلى ذكر الأطفال؛ فكما قلت بأني أقيم في البحرين حاليًا، وفي أيام تدريبنا الميداني نقوم بالتعامل مع الأطفال من ذوي اضطراب طيف التوحد، والذين لا يسمحون لمن لا يألفونه أن يتعامل معهم، ويصل الحال ببعضهم أن يضرب نفسه أو غيره.
ومن أكثر الطرق المعتمدة في تعليمهم أن تُقدم لهم معززات يحبونها، كالحلوى والألعاب وغيرها، والصغير الذي أعمل على تعليمه يحب (الآيباد)، فكلما قام بعمل شيء صحيح كافأنها بما يحبه لبضع دقائق، ومع الوقت بدأ يألفني ويتقبلني.
في الختام أقول: نادرًا ما أخاطب القارئ مباشرة، ولا أفعلها إلا للضرورة، فيا أيها القارئ، أحترم ذكاءك وثقافتك في العادة، لهذا لا أفسّر شيئًا أكتبه، ولو سُئلتُ لما أجبت، على كل حال؛ أرجو أن يستوعب عقلك سبب ذكري للمواقف تلك، وأن تعي الرابط بينها.
 
سعد المحطب
8-4-2019

الثلاثاء، 26 فبراير 2019

(هاري) فيل زهري


(هاري) فيل زهري

أخي الأكبر أسنّ مني بعامين، وابن جيراننا في غابر الأيام أسنّ من أخي بعامين، ومعلوم أن السنة في مقياس الصغار كألف سنة مما تعدون، أي أني كنت الطفل المتطفل بالنسبة لهما، وغالب المغامرات تفشل إن أشركوني بها مجبرين.

كانت أمي -رعاها الله- وجارتنا (أم عمر) ترفضان السماح لنا باللعب في سطح البيت، لكن (عمر) صاحب العقل المدبّر، بحكم عمره، قاد عملية عصيان مدني، وكان نائبه فيها أخي (محمد)، أما أنا فكنت المتطفل الذي اكتشف الخطة؛ فتم ضمه للمخطط بالإجبار.

صعدنا للسطح متسللين في ظهيرة أحد الأيام، وبعد انتهائنا من اللعب؛ جددنا العهد على حفظ السر، فاكتشاف أمرنا كان سيكلفنا حرمان الزيارة المتبادلة بين (عمر) وبيننا، ثم نزلنا إلى شقتنا متظاهرين بلعب الكرة ككل يوم.

تركتهما في الصالة قليلًا، وذهبت إلى أمي في المطبخ، وكنت على قدر من الذكاء مكّنني من تدبير أمر يزيل كل شبهة قد تقع علينا، قلت: "أمي، لا أرى بوضوح، أشعر بظلام في عينيّ"، وكان هدفي أن أوصل لها رسالة أن لا طاقة لي بالصعود إلى السطح بعين يشوبها ظلام، كي لا يساورها الشك فيّ.

لم أكن أكذب، فهذا ما كنت أعاني منه فعلًا، لكن المصيبة أن أمي كانت تعلم أن هذا ما يحصل لكل من يخرج إلى الشمس ثم يأوي إلى الظل، فانكشف أمرنا، وتم إلقاء اللوم عليّ من قبل العقل المدبر ونائبه.

غادرنا الشقة بعد الموقف بفترة، ولا علاقة للسطح بالأمر، وإنما حان دور أبي لينال سكنًا خاصًا بعد زواج دام أكثر من (13) عامًا، فاستقر بنا الحال في بيتنا الذي ما نزال فيه إلى اليوم، في هذا البيت كان أبي يملك مكتبة عامرة، وكانت من أسباب حبي للقراءة.

وهذا الحب دفعني يومًا لأشتري كتابًا اسمه (إلقاء الفيل الزهري)، ومفاد الكتاب أننا من دون قصد ننفي أمورًا هي مثبتة في العقل الباطن، كأن يبتدئ أحدنا كلامه: "لا أقصد الإساءة إليك، لكنك غبي حين فعلت كذا وكذا"، وقس على هذا أمورًا كثيرة.

ومن الأمثلة التي أوردها المؤلف أن (جيمس هيويت) قال مرة: "لست الأب البيولوجي للأمير هاري"، وهذا النفي هنا يسمى (إلقاء الفيل الزهري)، حسب رأي المؤلف (بيل ماكفارلان)، ودعّم رأيه بوجود شبه كبير بين الأمير والضابط المشارك في حرب الخليج (1991).

على كل حال؛ لست مهتمًا كثيرًا بالأمر، ما يهمني هو ما استفدته من ذلك الكتاب، حتى أني صرت أفهم كثيرًا من الجمل المنفية على أنها إثبات، والإثبات يكون عادة أقرب إلى المنطق.

حين كنت معلمًا؛ شاء الله أن يبتليني برئيس قسم هو من أراذل الخلق، ويدعمه مدير لا يقل دناءة عنه، ويسندَ جانبي بمُوجّه لا يعرفني، لكنه يعرف الله ويخافه في عمله.

تعرضت لمضايقات في العمل من رئيس القسم والمدير، فجلست مع الأول لعلّ المشكلة تُحل، الأمر وظيفي بحت، يتعلق بالحصص الدراسية وتحضير الدورس والزيارات، فابتدر كلامه: "اسمع يا سعد، علاقتي معك علاقة عمل، لا شأن لكونك من غير مذهبي بالأمر"، وبعد حلّ الخلاف ظاهريًا؛ نزلت إلى الثاني، فابتدر بجملة شبيهة في المعنى، إلا أنها تنفي أن يكون الخلاف بسبب اختلاف الأصل.

بعد تفكيري بالحوارين؛ تيقّنت من طائفية الأول، إذ لم يقل كلمة سوء واحدة في حق زميل يشاطره المذهب، والثاني أذكر له موقفًا حسنًا واحدًا طوال معرفتي به، واحترامًا لهذا الموقف فسأكتفي من المثال.

ولن أذكر محاولاتهما لخسف تقييمي السنوي بهدف تحويلي من معلم إلى إداري، ولولا تصدي الموجّه لهما لكنت حتى اللحظة في معمعة القضايا الإدارية.

الشجاعة سمة لا يتحلى بها الجميع، وعدم امتلاك جزء منها لا يعيب صاحبها بالضرورة، وهي بدورها لا تقتصر على الحروب أو الشجارات، بل إنها تتعدى ذلك لتصل إلى إبداء الرأي، فللجميع الحق بالحب أو الكُره، ولا يوجد قانون يلزم بإظهار أحدهما وكتم الآخر، التعبير حق مكتسب لكل من كان له قلب.

والجُبن سمة لا يتحلى بها إلا الأراذل، وهي تعيب صاحبها إن قادته لأفعال لا تليق، كأن يستغل سلطة مُنحها ليعبر بها عن خسّة في نفسه، كما حدث مع المذكورين في المقالة التي تعلوهما شرفًا، ولست أعني (عمر ومحمد أو أمهما)، ولا (هاري ووالده).

لو امتلكا الشجاعة لصارحاني بكرههما، تمامًا كما فعل ذلك الذي جمعتني وإياه الصدفة في معسكر (المواي تاي) الصيف الماضي، قال لي: "يا أخي أكرهك"، فقلت: "وأنا كذلك".

صحيح أنه لا يمتلك سلطة، إلا أنه يستطيع إظهار الودّ أمامي، وإضمار الشر في نفسه، لكنه لم يفعلها، صارحني لأنه شجاع، وأبغضني لأنه أحمق.. وحقير أيضًا، لستُ أدري كيف لأحدهم أن يعرفني ولا يحبني..!! لو لم أكن أنا لما أحببت سواي.

سعد المحطب
26-2-2019