(هاري) فيل زهري
أخي الأكبر أسنّ مني بعامين، وابن جيراننا في غابر الأيام أسنّ من أخي بعامين، ومعلوم أن السنة في مقياس الصغار كألف سنة مما تعدون، أي أني كنت الطفل المتطفل بالنسبة لهما، وغالب المغامرات تفشل إن أشركوني بها مجبرين.
كانت أمي -رعاها الله- وجارتنا (أم عمر) ترفضان السماح لنا باللعب في سطح البيت، لكن (عمر) صاحب العقل المدبّر، بحكم عمره، قاد عملية عصيان مدني، وكان نائبه فيها أخي (محمد)، أما أنا فكنت المتطفل الذي اكتشف الخطة؛ فتم ضمه للمخطط بالإجبار.
صعدنا للسطح متسللين في ظهيرة أحد الأيام، وبعد انتهائنا من اللعب؛ جددنا العهد على حفظ السر، فاكتشاف أمرنا كان سيكلفنا حرمان الزيارة المتبادلة بين (عمر) وبيننا، ثم نزلنا إلى شقتنا متظاهرين بلعب الكرة ككل يوم.
تركتهما في الصالة قليلًا، وذهبت إلى أمي في المطبخ، وكنت على قدر من الذكاء مكّنني من تدبير أمر يزيل كل شبهة قد تقع علينا، قلت: "أمي، لا أرى بوضوح، أشعر بظلام في عينيّ"، وكان هدفي أن أوصل لها رسالة أن لا طاقة لي بالصعود إلى السطح بعين يشوبها ظلام، كي لا يساورها الشك فيّ.
لم أكن أكذب، فهذا ما كنت أعاني منه فعلًا، لكن المصيبة أن أمي كانت تعلم أن هذا ما يحصل لكل من يخرج إلى الشمس ثم يأوي إلى الظل، فانكشف أمرنا، وتم إلقاء اللوم عليّ من قبل العقل المدبر ونائبه.
غادرنا الشقة بعد الموقف بفترة، ولا علاقة للسطح بالأمر، وإنما حان دور أبي لينال سكنًا خاصًا بعد زواج دام أكثر من (13) عامًا، فاستقر بنا الحال في بيتنا الذي ما نزال فيه إلى اليوم، في هذا البيت كان أبي يملك مكتبة عامرة، وكانت من أسباب حبي للقراءة.
وهذا الحب دفعني يومًا لأشتري كتابًا اسمه (إلقاء الفيل الزهري)، ومفاد الكتاب أننا من دون قصد ننفي أمورًا هي مثبتة في العقل الباطن، كأن يبتدئ أحدنا كلامه: "لا أقصد الإساءة إليك، لكنك غبي حين فعلت كذا وكذا"، وقس على هذا أمورًا كثيرة.
ومن الأمثلة التي أوردها المؤلف أن (جيمس هيويت) قال مرة: "لست الأب البيولوجي للأمير هاري"، وهذا النفي هنا يسمى (إلقاء الفيل الزهري)، حسب رأي المؤلف (بيل ماكفارلان)، ودعّم رأيه بوجود شبه كبير بين الأمير والضابط المشارك في حرب الخليج (1991).
على كل حال؛ لست مهتمًا كثيرًا بالأمر، ما يهمني هو ما استفدته من ذلك الكتاب، حتى أني صرت أفهم كثيرًا من الجمل المنفية على أنها إثبات، والإثبات يكون عادة أقرب إلى المنطق.
حين كنت معلمًا؛ شاء الله أن يبتليني برئيس قسم هو من أراذل الخلق، ويدعمه مدير لا يقل دناءة عنه، ويسندَ جانبي بمُوجّه لا يعرفني، لكنه يعرف الله ويخافه في عمله.
تعرضت لمضايقات في العمل من رئيس القسم والمدير، فجلست مع الأول لعلّ المشكلة تُحل، الأمر وظيفي بحت، يتعلق بالحصص الدراسية وتحضير الدورس والزيارات، فابتدر كلامه: "اسمع يا سعد، علاقتي معك علاقة عمل، لا شأن لكونك من غير مذهبي بالأمر"، وبعد حلّ الخلاف ظاهريًا؛ نزلت إلى الثاني، فابتدر بجملة شبيهة في المعنى، إلا أنها تنفي أن يكون الخلاف بسبب اختلاف الأصل.
بعد تفكيري بالحوارين؛ تيقّنت من طائفية الأول، إذ لم يقل كلمة سوء واحدة في حق زميل يشاطره المذهب، والثاني أذكر له موقفًا حسنًا واحدًا طوال معرفتي به، واحترامًا لهذا الموقف فسأكتفي من المثال.
ولن أذكر محاولاتهما لخسف تقييمي السنوي بهدف تحويلي من معلم إلى إداري، ولولا تصدي الموجّه لهما لكنت حتى اللحظة في معمعة القضايا الإدارية.
الشجاعة سمة لا يتحلى بها الجميع، وعدم امتلاك جزء منها لا يعيب صاحبها بالضرورة، وهي بدورها لا تقتصر على الحروب أو الشجارات، بل إنها تتعدى ذلك لتصل إلى إبداء الرأي، فللجميع الحق بالحب أو الكُره، ولا يوجد قانون يلزم بإظهار أحدهما وكتم الآخر، التعبير حق مكتسب لكل من كان له قلب.
والجُبن سمة لا يتحلى بها إلا الأراذل، وهي تعيب صاحبها إن قادته لأفعال لا تليق، كأن يستغل سلطة مُنحها ليعبر بها عن خسّة في نفسه، كما حدث مع المذكورين في المقالة التي تعلوهما شرفًا، ولست أعني (عمر ومحمد أو أمهما)، ولا (هاري ووالده).
لو امتلكا الشجاعة لصارحاني بكرههما، تمامًا كما فعل ذلك الذي جمعتني وإياه الصدفة في معسكر (المواي تاي) الصيف الماضي، قال لي: "يا أخي أكرهك"، فقلت: "وأنا كذلك".
صحيح أنه لا يمتلك سلطة، إلا أنه يستطيع إظهار الودّ أمامي، وإضمار الشر في نفسه، لكنه لم يفعلها، صارحني لأنه شجاع، وأبغضني لأنه أحمق.. وحقير أيضًا، لستُ أدري كيف لأحدهم أن يعرفني ولا يحبني..!! لو لم أكن أنا لما أحببت سواي.
سعد المحطب
26-2-2019
26-2-2019