الثلاثاء، 26 فبراير 2019

(هاري) فيل زهري


(هاري) فيل زهري

أخي الأكبر أسنّ مني بعامين، وابن جيراننا في غابر الأيام أسنّ من أخي بعامين، ومعلوم أن السنة في مقياس الصغار كألف سنة مما تعدون، أي أني كنت الطفل المتطفل بالنسبة لهما، وغالب المغامرات تفشل إن أشركوني بها مجبرين.

كانت أمي -رعاها الله- وجارتنا (أم عمر) ترفضان السماح لنا باللعب في سطح البيت، لكن (عمر) صاحب العقل المدبّر، بحكم عمره، قاد عملية عصيان مدني، وكان نائبه فيها أخي (محمد)، أما أنا فكنت المتطفل الذي اكتشف الخطة؛ فتم ضمه للمخطط بالإجبار.

صعدنا للسطح متسللين في ظهيرة أحد الأيام، وبعد انتهائنا من اللعب؛ جددنا العهد على حفظ السر، فاكتشاف أمرنا كان سيكلفنا حرمان الزيارة المتبادلة بين (عمر) وبيننا، ثم نزلنا إلى شقتنا متظاهرين بلعب الكرة ككل يوم.

تركتهما في الصالة قليلًا، وذهبت إلى أمي في المطبخ، وكنت على قدر من الذكاء مكّنني من تدبير أمر يزيل كل شبهة قد تقع علينا، قلت: "أمي، لا أرى بوضوح، أشعر بظلام في عينيّ"، وكان هدفي أن أوصل لها رسالة أن لا طاقة لي بالصعود إلى السطح بعين يشوبها ظلام، كي لا يساورها الشك فيّ.

لم أكن أكذب، فهذا ما كنت أعاني منه فعلًا، لكن المصيبة أن أمي كانت تعلم أن هذا ما يحصل لكل من يخرج إلى الشمس ثم يأوي إلى الظل، فانكشف أمرنا، وتم إلقاء اللوم عليّ من قبل العقل المدبر ونائبه.

غادرنا الشقة بعد الموقف بفترة، ولا علاقة للسطح بالأمر، وإنما حان دور أبي لينال سكنًا خاصًا بعد زواج دام أكثر من (13) عامًا، فاستقر بنا الحال في بيتنا الذي ما نزال فيه إلى اليوم، في هذا البيت كان أبي يملك مكتبة عامرة، وكانت من أسباب حبي للقراءة.

وهذا الحب دفعني يومًا لأشتري كتابًا اسمه (إلقاء الفيل الزهري)، ومفاد الكتاب أننا من دون قصد ننفي أمورًا هي مثبتة في العقل الباطن، كأن يبتدئ أحدنا كلامه: "لا أقصد الإساءة إليك، لكنك غبي حين فعلت كذا وكذا"، وقس على هذا أمورًا كثيرة.

ومن الأمثلة التي أوردها المؤلف أن (جيمس هيويت) قال مرة: "لست الأب البيولوجي للأمير هاري"، وهذا النفي هنا يسمى (إلقاء الفيل الزهري)، حسب رأي المؤلف (بيل ماكفارلان)، ودعّم رأيه بوجود شبه كبير بين الأمير والضابط المشارك في حرب الخليج (1991).

على كل حال؛ لست مهتمًا كثيرًا بالأمر، ما يهمني هو ما استفدته من ذلك الكتاب، حتى أني صرت أفهم كثيرًا من الجمل المنفية على أنها إثبات، والإثبات يكون عادة أقرب إلى المنطق.

حين كنت معلمًا؛ شاء الله أن يبتليني برئيس قسم هو من أراذل الخلق، ويدعمه مدير لا يقل دناءة عنه، ويسندَ جانبي بمُوجّه لا يعرفني، لكنه يعرف الله ويخافه في عمله.

تعرضت لمضايقات في العمل من رئيس القسم والمدير، فجلست مع الأول لعلّ المشكلة تُحل، الأمر وظيفي بحت، يتعلق بالحصص الدراسية وتحضير الدورس والزيارات، فابتدر كلامه: "اسمع يا سعد، علاقتي معك علاقة عمل، لا شأن لكونك من غير مذهبي بالأمر"، وبعد حلّ الخلاف ظاهريًا؛ نزلت إلى الثاني، فابتدر بجملة شبيهة في المعنى، إلا أنها تنفي أن يكون الخلاف بسبب اختلاف الأصل.

بعد تفكيري بالحوارين؛ تيقّنت من طائفية الأول، إذ لم يقل كلمة سوء واحدة في حق زميل يشاطره المذهب، والثاني أذكر له موقفًا حسنًا واحدًا طوال معرفتي به، واحترامًا لهذا الموقف فسأكتفي من المثال.

ولن أذكر محاولاتهما لخسف تقييمي السنوي بهدف تحويلي من معلم إلى إداري، ولولا تصدي الموجّه لهما لكنت حتى اللحظة في معمعة القضايا الإدارية.

الشجاعة سمة لا يتحلى بها الجميع، وعدم امتلاك جزء منها لا يعيب صاحبها بالضرورة، وهي بدورها لا تقتصر على الحروب أو الشجارات، بل إنها تتعدى ذلك لتصل إلى إبداء الرأي، فللجميع الحق بالحب أو الكُره، ولا يوجد قانون يلزم بإظهار أحدهما وكتم الآخر، التعبير حق مكتسب لكل من كان له قلب.

والجُبن سمة لا يتحلى بها إلا الأراذل، وهي تعيب صاحبها إن قادته لأفعال لا تليق، كأن يستغل سلطة مُنحها ليعبر بها عن خسّة في نفسه، كما حدث مع المذكورين في المقالة التي تعلوهما شرفًا، ولست أعني (عمر ومحمد أو أمهما)، ولا (هاري ووالده).

لو امتلكا الشجاعة لصارحاني بكرههما، تمامًا كما فعل ذلك الذي جمعتني وإياه الصدفة في معسكر (المواي تاي) الصيف الماضي، قال لي: "يا أخي أكرهك"، فقلت: "وأنا كذلك".

صحيح أنه لا يمتلك سلطة، إلا أنه يستطيع إظهار الودّ أمامي، وإضمار الشر في نفسه، لكنه لم يفعلها، صارحني لأنه شجاع، وأبغضني لأنه أحمق.. وحقير أيضًا، لستُ أدري كيف لأحدهم أن يعرفني ولا يحبني..!! لو لم أكن أنا لما أحببت سواي.

سعد المحطب
26-2-2019
 

الجمعة، 15 فبراير 2019

(حطين) في الذاكرة

(حطين) في الذاكرة
بعض الناس يولدون وفي أفواههم مغارف من ذهب، كما يُقال، أما أنا فأظنني وُلدت مرتديًا لباسًا رياضيًا، أحب الرياضات في كثير من أشكالها، وفي كل حقبة أتعلق بإحداها، باستثناء (اليوجا) التي لن أتعلق بها أبدًا، في حال سلّمنا أنها من الرياضات.
كرة القدم بطبيعة الحال هي أولى اهتماماتي، تليها رياضة المشي، أو الجري في حال كانت اللياقة جيدة، وهذا أمر يجعلني أبحث عن أفضل الأماكن لممارسة اهتماماتي، منها ملاعب جمعية الإصلاح، أو ملعب بيت الزكاة، لكني لن أتكلم عن الكرة حاليًا.
قبل الزواج كنت أملك نقودًا لا تُحصى، ولم يكن مكلفًا بالنسبة لي أن ألتحق بنادٍ رياضي تكلفته عالية، خاصة وأنه يحوي في مرافقه أماكن لممارسة كل الرياضات تقريبًا، بما فيها (اليوجا)، في حال سلّمنا أنها من الرياضات.
لكن المحزن أني بعد الزواج فقدت جميع ثروتي، ولم أستطع بطبيعة الحال تجديد اشتراكي في نفس النادي، الخيار الأمثل المؤقت كان في الذهاب إلى الممشى المجاور لسكني الجديد، وهكذا استمر حالي منذ الزواج وحتى لحظة مغادرة الكويت للدراسة، أذهب بشكل دوريّ لأجري ما شاء الله لي أن أجري.
الممشى متاح للجميع، رجالًا ونساء، وممنوع فيه اصطحاب الكلاب والدراجات الهوائية، وهذا أمر يخالفه بعض الكلاب الذين يأتون مصطحبين معهم دراجاتهم وكلابهم، أجلّ الله القارئ والسامع.
والحق يُقال؛ فلم أشهد يومًا أي مخالفة شرعية أو عرفية تُرتكب هناك، حتى ذلك الرجل، الذي أقدّر أنه في العقد الخامس، حين تبادل الإعجاب مع امرأة أظنها من نفس جيله؛ لم يقترب منها أمام العلن، بل واعدها سرًا في (كاريبو بيان) صباح أحد الأيام، فرأيتهما ثم أدرت وجهي عنهما، ومن يومها لم يعد يرد عليّ السلام إن سلّمت، ليتهما ذهبا إلى (مروج) بدل (بيان) ذلك اليوم.
قبل مدة من الآن حدثت ضجة لم أولها اهتمامًا، وأتطرق هنا كحدث تافه مرّ وذهب:
أستاذة قانون في جامعة الكويت مضطربة نفسيًا، لعلها تلقت تعنيفًا حوّلها من سوية إلى نسوية، ومن إنسانة إلى إنسانية، ومن مسلمة مسالمة إلى مسلمة معادية للإسلام، تعدّت على الذات الإلهية، وبعد أن صدر بحقّها حكم قضائي فرّت منه، أستاذة قانون تفر من القانون..!!
هربت إلى بلاد بعيدة، إلى أمريكا تحديدًا، ومن هناك بدأت تشتم الأوضاع في الكويت، شأنها كشأن الجبناء من أمثالها، ثم بدأت تحبب الناس بالهجرة وتحثهم عليها، شأنها كشأن إبليس، فحين يوم تأكد من خلوده في النار؛ أقسم أن يجر من يستطيع جرّه من الخلق معه.
ولكي تغري المضطربات من جنسها بدأت تحكي لهن عن مقارنات تتعلق بالعلاقات المباحة هناك، وبالتحرش غير الموجود في مهجرها حسب زعمها الكاذب، فكتبت تغريدة نصها الآتي:
"نعمة كبيرة إني أستطيع ممارسة رياضة الركض على الرصيف sidewalk من دون أن أتعرّض لأبشع كلمات التحرش والنظرات وأبواق السيارات.
في الكويت لا تسلم المرأة من نظرات ولسان الرجل (مدّعي الدين والشرف)!"
من هذه التغريدة نعلم أن مشكلتها متعلقة بأمور بسيطة لا تستدعي الهجرة، هي تريد ممارسة رياضة المشي دون التعرض لما زعمت وجوده في الكويت، ولستُ أنكره بدوري، لكني لا أعتبره ظاهرة، ولا أعلم إلى أي ممشى كانت تذهب هي، ولو سألتني لأشرت لها إلى ممشى (حطين) المنضبط، باستثناء ظاهرة وجود (الكلاب والدراجات الهوائية)، والتي بدورها لم تشتكِ منها، إذن فلا مشكلة ستواجهها هناك.
ثم ألا تملك المال (وهي أستاذة جامعية) لتشترك في نادٍ لا يُسمح فيه بدخول الرجل (مدّعي الشرف والدين)..!!
ومن المشاكل التي دعتها للهجرة، كما تزعم في تغريدتها، أن المرأة لا تسلم في الكويت من النظرات واللسان، لهذا ارتأت أن تهاجر لبلد لا تسلم فيه المرأة من اللمس والضرب والهتك، منطقك سليم أيتها الشريفة العفيفة.
الحماقات تتكشف وتتعرى على ألسنة أصحابها، فالهاربة وأمثالها من أعداء الدين يرون الحرية في التنصل منه، ولا يقرّون بتحيزهم ضده دون منطق، وينسبون كل تصرف يخرج من مسلم أنه الإسلام.
تعدّوا المرحلة التي كان يُقاس فيها الدين بتصرفات العلماء الخاطئة، فصاروا يقيسونه بكل تصرف يخرج من أقل المسلمين إسلامًا وإيمانًا، ولو أقرّ صاحب الفعل أنه فعل ذلك بدافع العادات والتقاليد فإنهم لا يصدقونه، بل يصرون على ضرب الدين بكل السبل، وليتهم يفعلون ذلك بعقل، بل إن الله يلهم ساداتهم ليرسلوا أراذلهم؛ فينكشف زيف فكرهم بسوء فعلهم.
على كلّ حال، فالدين باقٍ ما بقيت الأرض، وممشى (حطين) لن يُدنّس، وسأعود إليه بإذن الله بعد تخرجي، أما ذلك الرجل فأنصحه أن يواعد في (ستاربكس) في المرّات الأخرى، فإني قليل الذهاب إلى هناك.
سعد المحطب
15-2-2019