(دقلقني)
ولا تحلقني
منذ تحرير الكويت،
بداية التسعينيات، بدأت أخزن في ذاكرتي الأحداث وأسترجع بعضها وقت الحاجة، أما ما
قبله؛ فقليل القليل منه فقط أذكره، ومما لا أنساه أن أبي كان يأخذني وأخي إلى
الحلاق القريب من بيتنا ليحلق رؤوسنا.
ولأنني لست من
قبيلة المجرّبين؛ فإني لم أزل أحلق عنده حتى بعد تخرّجي من الجامعة، أي أني كنت من
زبائنه لأكثر من عشرين سنة، حتى أتى ذلك اليوم الذي كتب الله أن أقطع علاقتي فيه
بـ (طارق) وزمرته.
كنت على موعد مع
صديق، وحين اقتربت من بيته رأيت بجانبه حلاقًا من الجنسية الأفضل في هذه المهنة،
هم الأفضل بلا منازع، لهذا أحترم الحلاقين الباكستانيين.
سألت صديقي:
"كيف هي حلاقته؟"، فأجاب: "ممتاز، أنا أحلق عنده منذ كنت
طفلًا"، فوثقت برأيه ونزلت، وما إن
جلست على الكرسي ووضع الملاءة علي؛ حتى تذكرت أمرًا، فصديقي منذ عرفته لا يعرف غير
(القَرعة)، ومعلوم أنها لا تحتاج إلى مهارة، ثم إنه، حتى لحظة كتابة هذا المقال،
لا ينبت في وجهه شعر غير الحاجبين.
لولا الحياء
لنهضت، ثم قلت في نفسي: "مجرد تحديد للحية، ولو أخطأ فلا بأس، يومان أو
ثلاثة؛ وستعود كما كانت"، ثم إني أستطيع أن أقسم أني لم أرَ أحدًا بمهارته
طوال حياتي، فاعتمدته ومنحته لقب: (حلّاق سعد).
كاد يقع في
المحظور يومًا، والذي لا أسامح حلّاقًا عليه ولو كان ماهرًا، فحين جلست إليه لينجز
عمله؛ لمح عندي منطقة حساسة، وبدأ يتلمسها ليبدي رأيه بها، وقبل أن ينطق قلت له:
"لا شأن لك بالصلعة، أكمل عملك".
حاليًا أنا مقيم في
البحرين للدراسة، ومما كنت قلقًا بسببه أني قد لا أجد حلّاقًا بمهارة (أمجد) حلاق
اليرموك، بدأت أهيم على وجهي أسبوعيًا أجرب هذا وذاك، حتى وصلت إلى أحدهم ممن يملك
مهارة متوسطة، لكنه قدم خدمة لم أجدها حتى عند (أمجد)، بل حتى (طارق) لم يقدمها
يومًا، فبعد أن أنهى تحفته الفنية على وجهي؛ قال: "ريلاكس أرباب"، وبدأ
يلعب برأسي يمنة ويسرة؛ وفجأة سمعت صوت طقطقة رقبتي، ثم فعلها ثانية في الجانب
الآخر، فاعتمدته ومنحته لقب: (حلاق سعد في البحرين).
هو الآخر كاد يقع
في المحظور، فحين رأى شعرة بيضاء حاول قصّها؛ فمنعته، وغفرت له جهله انتظاري
البياض يغزو رأسي المليء بالحكم والعبر والأفكار النيّرة الخلّاقة، ليزيدني
وقارًا، ويضفي عليّ هيئة الحكيم.
وبعيدًا عن الحلّاقين،
أحب مداعبة (جمانة)، وكثيرًا ما تقول لي: "بابا، دقلقني"، وتعني: (دغدغني)،
وهذه الحركة أقوم بها كثيرًا مع الأطفال، بمن فيهم ابنة أخت زوجتي، تلك التي كانت
تظنني خطفت خالتها منها حين تزوجتها، فأظهرت لي عداء غير مبرر، وحين بدأت أدغدغها
أحبتني، بل إنها صارت تأتي إليّ راكضة لأحملها كلما رأتني.
وعلى ذكر الأطفال؛
فكما قلت بأني أقيم في البحرين حاليًا، وفي أيام تدريبنا الميداني نقوم بالتعامل
مع الأطفال من ذوي اضطراب طيف التوحد، والذين لا يسمحون لمن لا يألفونه أن يتعامل
معهم، ويصل الحال ببعضهم أن يضرب نفسه أو غيره.
ومن أكثر الطرق
المعتمدة في تعليمهم أن تُقدم لهم معززات يحبونها، كالحلوى والألعاب وغيرها،
والصغير الذي أعمل على تعليمه يحب (الآيباد)، فكلما قام بعمل شيء صحيح كافأنها بما
يحبه لبضع دقائق، ومع الوقت بدأ يألفني ويتقبلني.
في الختام أقول:
نادرًا ما أخاطب القارئ مباشرة، ولا أفعلها إلا للضرورة، فيا أيها القارئ، أحترم
ذكاءك وثقافتك في العادة، لهذا لا أفسّر شيئًا أكتبه، ولو سُئلتُ لما أجبت، على كل
حال؛ أرجو أن يستوعب عقلك سبب ذكري للمواقف تلك، وأن تعي الرابط بينها.
سعد المحطب
8-4-2019
8-4-2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق