الاثنين، 20 مايو 2019

السيد كامل الأوصاف


السيد كامل الأوصاف

أذكر جيدًا وقفتي أمام موظفة التوجيه والإرشاد في كليتة العلوم الاجتماعية، كانت تطلب مني، بأدب، الاستعجال بالإجابة: "هل أسجلك في مادة (الدوافع والانفعالات)؟"، كنت مترددًا لسببين، أولهما أني لا أعرف الدكتور (كامل فراج)، وثانيهما أني لم أتخيل نفسي أدرس في شعبة مخصصة للفتيات، وأنا المراهق الخجول آنذاك.

وافقت مجبرًا، لأن جدولي الدراسي كان ناقصًا، ولم تتوفر مادة مناسبة لي غير هذه، وحين بدأت المحاضرات؛ ندمت على كل لحظة تردد أبديتها، فلم أرَ شبيهًا له في علمه وأخلاقه ورُقيّه، كان مثالًا حيًا لمن يزداد تواضعه بازدياد علمه.

في اختبار المنتصف؛ مرّ بجانبي وربّت على كتفي، ثم وضع توقيعه على أول صفحة دون أن ينطق بكلمة، ثم عاد لمكانه، فوقع قلبي على الطاولة، وظهرت فيه صورة حبي الأول (منيرة)، تلك التي كانت تلعب معي في الروضة، وتنازع (سبيكة) للظفر بي، لكن هيهات لهما، فلم تظفر بي غير (أم جمانة)، والتي لم تكن وُلدت بعد، أعني في أيام نزاعات (منيرة وسبيكة) بطبيعة الحال.

رجع الدكتور (كامل) خطوتين للوراء، وأمسك قلبي ليعيده مكانه، وقال: "أنت تتأخر كثيرًا قبل أن تجيب، لأنك تظن كل سؤال يحوي بُعدًا غير ظاهر، وهذه من صفات الأذكياء، لكن اطمئن، فكل الأسئلة مباشرة، وهي سهلة كما تبدو، ولا تخفي أي خدع".

أحب الذين يحسنون الظن دائمًا، لا يعلم أني أتأخر في الإجابة لأني لم أدرس، وأرى أسئلة عن أمور لم أسمع بها يومًا، لهذا كنت أفكر بإجابات لم يسمع هو بها يومًا.

من درس عند هذا الدكتور يعلم أنه يشجع التفكير خارج الصندوق، ولا يحب ما يعتمد على الحفظ، ولن أنسى يومًا قوله: "لا أعترف بالاختبارات، لأنها فقط تقيس ما درسته بالأمس، لكن لوائح الجامعة تلزم بها"، وبعد نقلي لمقولته الحكيمة؛ هل من داعٍ لأقول أني نلت درجة الامتياز؟ فالتوقيع على الورقة لا يناله إلا من أثبت نيله المعرفة، لا المعلومات، وبفضل الله فقد كنت منهم.

في دراستي للماجستير كاد الموقف أن يكرر نفسه بالنتيجة، فقد درست في الفصل الأول لدى دكتورة تتبنى مثل فكر الدكتور (كامل)، فكما يظهر أنها لا تشجع الحفظ، وتشهد عليها اختباراتها ذات الكتاب المفتوح (Open Book)، وهذه الطريقة تقيس الفهم، حرفيًا، ولا تقيس ما حُفظ بالأمس، ولا ما خُزّن في الذاكرة دون استيعاب.

لا أعتقد بضرورة ذكر درجتي في ذلك الفصل، لكنها كانت كافية لتجعلني أترقب هذا الفصل بشغف، ولم تنفك أستاذتنا تحفزنا: “Think out of the box”، وحين أتى يوم الاختبار الفصلي؛ فكرت خارج الصندوق كما أحب دائمًا، وأجبت على سؤال بطريقة أحسبها ذكية جدًا.

كان نص السؤال ما يلي: "فلان يعاني من نوبات غضب"، وطُلب منا أن نحدد الأسباب المحتملة لتلك النوبات، فكان أول احتمال وضعته: "يعاني من التوحد"، فخسرت درجة كاملة بسبب هذه الإجابة.

سألتها عن سبب النقص، فقالت: "أنت تحتال على السؤال، اسم المادة (استراتيجيات تدريس التوحد)، فكيف تجيب بهذه الطريقة؟"، هي ظنّت أني أفسّر الماء بالماء، والحقيقة أني كنت أستفيد من كل المعارف المتاحة لأجيب بذكاء، كما ظننت، ولم أعلم أني أحتال.

أنا كغيري، أرقب يومًا لا يُحارب فيه الناجح حتى يفشل، ولا يُضرب فيه المبدع حتى يُكسر، ولا يُحبط الذكي حتى ينوخ، النجاح والإبداع والذكاء مهارات، والمهارة بطبيعتها كالعضلة، تضمر إن لم تعمل.

يفرز المخ هرمونًا اسمه (الدوبامين)، ويسمى مجازًا (هرمون التحفيز)، ومن مهامه أن يحفز الإنسان لإنجاز المهام، وإن كان إفراز (السيروتونين) يزداد بالسكّريات؛ فإن (الدوبامين) يُفرز بشكل أسهل، فالمديح الحقيقي والثناء باعتدال أمران كفيلان بزيادة إفرازه، هذه المعلومة ما أزال أذكرها منذ قالها لي الدكتور (كامل) قبل أكثر من ثلاث عشرة سنة من اليوم، ولعل علمه بهذا الأمر هو ما جعله يقول لي: " أنت تتأخر كثيرًا قبل أن تجيب، ......، وهذه من صفات الأذكياء، .....".

أعرف أشخاصًا يحقنون، بأفعالهم وأقوالهم، مضادات التحفيز بأوردة غيرهم، بل إنهم ينسفون منشأ (الدوبامين) عن بكرة أبيه، يريدون تفكيرًا معلّبًا من وسط الصندوق، بل من عمقه، ويعتبرون أي محاولة خروج من الصندوق محاولة اغتيال فكري لهم.

أصدق مثال هو ذلك الشخص الذي قال لي: "أنت كسول يا سعد، تريد درجات دون أن تدرس، وهذا أمر يضيع عليك الكثير، ادرس"، وهناك مقولة تُنسب لـ (بيل غيتس)؛ يقول: "أنا أوظف الكسول لأداء أصعب الأعمال؛ لأنه سيجد أسهل طريقة لأدائها"، وصديقي (بيل) أصدق عندي من فلان.

كسل المبدع محمود، فبه يُجبر المخ على الإتيان بغير المألوف، وفي الغالب سينظر الناس له بسلبية، وقد يراه بعض الأساتذة (محتالًا)، والأحمق فقط من يصدق ذلك، أما المبدع فسيرضى بخسارة دجات الاختبار، في مقابل الاحتفاظ بمرونة توليد الأفكار.

ولعلّي أفرد مقالًا لاحقًا عن الكسل.

سعد المحطب
1-5-2019
20-5-2019