عقدة (الأوغر)
في نهاية
التسعينيات، حزنت كثيرًا لما علمت أن (فتحي كميل) لبس فنيلة المنتخب الكويتي وكان عمره
(17) سنة، فقد كان طموحي أن أكون أصغر لاعب يصل للمنتخب بتاريخ الكويت، فقررت أن
أصل إليه بعمر (16) سنة، وهذا ما لم يحصل، ولو حصل لكنت الآن على ألفظ أنفاسي
الأخيرة رياضيًا، بل ربما كانت الجماهير ستتحد وتكتب تحت وسم #الشعب_يطالب_سعد_بالاعتزال.
أما ثاني أحزاني
فكان يوم فتحت الجريدة يومًا؛ فوجدت فتاة بعمري قد أصدرت كتابها الأول، وكان ديوان
شعر، وما أزال أحفظ اسمها، لكني لن أذكره هنا، حزنت مرة أخرى، فقد كنت أطمح أن
أكون أصغر كويتي يصدر كتابًا من تأليفه، كان عمري وقتها (15) سنة، ضاع هذا الحلم.
قررت في سنتي قبل
الأخيرة في الثانوية أن أجتهد لأنال المركز الأول على الكويت في الثانوية العامة،
لكن ليس لكل مجتهد نصيب، فمعدلي في النهاية بالكاد سمح لي بدخول الجامعة، وهذا أمر
ثالث أحزنني.
في الجامعة، كنت
من القلة الذين لم يروا معدلهم يصل إلى (3) نقاط طوال السنوات الأربع.. رغم سهولة
الدراسة، وكان ذلك على الرغم من أني كنت أخطط لأكون من الأوائل، وممن ينالون تكريم
سمو الأمير، وبما أن الأمر لم يسر كما خُطط له؛ فقد أعلنت حزني للمرة الرابعة.
بعد تأليفي لكتابي
الأول أخيرًا؛ حققت أعلى مبيعات بالنسبة لدار النشر، لكن في معرض الشارقة فقط، أما
في الكويت فقد أحرزت رقمًا متأخرًا، وبعد انتهاء المعرض كان لزامًا عليّ أن أظهر
حزني، عددت مرّات الحزن فوجدتها الخامسة.
جدي -رحمه الله-
يكبر أبي بثلاثين سنة، وأبي يكبرني بمثلها، وتمنيت أن يكون لي ولد أكبره بنفس
المدة، وهذا ما لم يحدث، حسنًا، لأي رقم وصلنا؟ نعم، هذا حزني السادس.
لدى بلوغي
الثلاثين، قررت أن تنتهي أحزاني المرقّمة، وأن أجعلها عشوائية بلا تعداد، تأتي
وتذهب بلا اهتمام من شخصي الكريم، فكل أحزاني الستة تافهة، بعد أن أتجاوزها بقليل
أدرك كم كنت مخطئًا، ولم أستطع تجاوز كل ذلك إلا بعدما تخلصت بشكل رمي من عقدة
(الأوغر)*، فاستقرت حياتي من حينها، واطمأنت نفسي، وهدأت روحي.
سألت نفسي عن
أهمية أن أكون (أول) من ينجز أمرًا، لم أجد إجابة تقنعني، فسألت عن سبب حرصي
السابق على أن أكون (أصغر) من ينال شيئًا، كذلك لم أجد سببًا يفيدني، فتركت الأمور
تجري في أعنّتها، وتركتها قدريّة تأتي على مهل، لم أعد أستعجلها ولا أستجديها.
وبالعودة إلى
أحزاني السابقة، فإنني أحللها واحدة تلو أخرى، فأقول:
·
(فتحي كميل) لبس فنيلة المنتخب بعمر (17)
سنة، لكنه لم ينل نجاح (جاسم يعقوب) الذي لبس ذات الفنيلة بعمر (19) سنة، إذن
فعمره الصغير لم يصنع له المجد.
·
ألّفت أول كتاب ونشرته بعمر (26) سنة، وما
يزال اسمي يتردد في المعارض وفي رابطة الأدباء، أما تلك الفتاة فقد بُترت ونُسيت،
وربما ماتت ولم يعبأ بها غير أهلها.
·
لا أعرف الأول على مستوى الكويت في سنة
تخرجي، لكني أعرف كل من نال نسبة أعلى مني في مدرستي، كلهم الآن موظفون أو رؤساء
أقسام، أما أنا؛ فأنا.
·
أذكر لوحة الشرف المعلقة في قسم علم النفس،
الأول كان معدله (4) نقاط تامة، يعمل موظفًا في إحدى قطاعات النفط، استفاد من
(فيتامين واو) وليس من المعدل.
·
جميع الذين حققوا أعلى مبيعات في أول معرض
كتاب أشارك به كُشفت أوراقهم، وظهر سخف ما يكتبون، وهم الآن لا وجود لهم في أي
منصة ثقافية، ومن ورث مكانهم سيلحق بهم قريبًا، أما أنا فأملك عضوية في رابطة
الأدباء الكويتيين، وهي عصية عليهم.
·
انكسرت سلسلة الثلاثين عامًا، وحزني غير
المبرر كاد ينسيني أني رُزقت فتاة تملأ قلبي وعيني وجُلّ عمري.
النضج قد يحتاج وقتًا ليتم، لكنه يكفل جودة في العمل لم تكن لتحصل لولاه، وهو ما قد يستغرق يومًا أو سنة، أو ربما قرنًا، المهم أنه متى ما أتى فإنه محل ترحيب، لا ضرر في التأخير، الضرر في عدم التمام، وهو ما لا يعاني منه مجتهد، بل إنه لا يحصل إلا لمن استعجل قطف الثمار قبل تمام نضوجها.
يقول الشاعر:
يقول الشاعر:
إني وإن كنت
الأخير زمانه ** لآتٍ ما لم تستطعه الأوائل
أرى أن صديقنا
الشاعر قد أوفى بما وعد، فأتى ببيت شعر لم يأتِ به أحد قبله، فقد أوجز وأبلغ،
وأستغنى ببضع كلمات عن آلاف منها، تمامًا كما تفعل مقالة كهذه؛ فبها يُستغنى عن
مجلدات تنادي بنفس المغزى.
نحتاج للتخلص من
عقدة (الأوغر) لننجز، فالأوان لم يفت مطلقًا، ولكل شيء أوانه، إن لم يكن وقتنا
الآن فإنه سيأتي لاحقًا، فالنجاح لا يرتبط بعمر أبدًا، عجوز كنتاكي (كولونيل
ساندرز) نجح في عقده السابع، والصديق (باولو كويلو) نجح في العقد الخامس، والأمثلة
كثيرة لا تحصى.
لا أنكر متعة
التفرد، لكن عدم حصوله لا يعني التوقف عن المحاولة، فكثير من الثواني والثوالث فاقوا
الأوائل، الأمر لا يرتبط دائمًا بالذكاء أو الجهد، فالحظ قد يلعب دورًا، وأحيانًا
العمر، وأفضل مثال هم السفلة الذين ولاهم سبقهم الزمني عليّ، دون كفاءة أو امتياز
حقيقي، العمر فقط وضعهم في ذلك المكان.
* الأوغر: كلمة
منحوتة من عندي، أصلها (الأول والأصغر).
سعد المحطب
20-6-2019
20-6-2019