الخميس، 26 سبتمبر 2019

اعترافات المارينز


اعترافات المارينز

حملت سنة (2015) لي الخير الكثير، ومن ذلك الخير ولادة (جمانة) التي لن أتطرق لها، وأيضًا نجاحي في شراء راحتي يوم بدأت العام الدراسي بعيدًا عن مدرستي السابقة، أصبح مكان عملي أقرب لسكني، ومديري مجهول بالنسبة لي، ومهما بلغ من سوء فلا أظنه سيصل معشار ما عليه مديري السابق.

عانيت كثيرًا في البداية من سوء الإدارة في مدرستي الجديدة، إذ يرى المدير أن الطالب لا يُمس، فلتقم الدنيا ولا تقعد.. لأجل طالب يريد ممارسة حقه المكتسب في الغش والإساءة للمعلم، في بادئ الأمر كنت ممن حاول الطلاب الإساءة لهم، فأعطيت كلًا حجمه، وأوقفته عند حده، وكادت السنة الدراسية أن تمر على خير لولا أني سمعت أثناء أحد دروسي (شيلة) من هاتف مجهول المكان والمالك.

أوقفت الدرس، سألت عن المصدر؛ فلم يجبني أحد، هممت بالخروج من الفصل، وأخبرت الطلاب أنهم يملكون (10) دقائق للاعتراف، وبعدها سأعود لأبشرهم بنيلهم جميعًا درجة (صفر) في أعمال الفترتين الثالثة والرابعة، بالإضافة إلى كتابة تقرير بحق الجميع ليُتّخذ قرار الفصل بحقهم، وأني أعرف طريق الشكوى على المدير إن لم ينفذ ما أريد.

لم أصل حتى إلى منتصف الطريق، قبل وصولي لممر قسمي؛ سمعت طالبًا يناديني ويعترف بخطئه، ثم سلمني هاتفه واعتذر بأدب لم أستغربه منه، عدت للفصل، وأكملت الشرح، وبعد انتهاء وقت الدرس أعدت الهاتف إلى صاحبه بعد أن وعدني أنها ستكون الأخيرة، ومضت باقي السنة الدراسية على ما تشتهيه النفس، في الغالب.

هل أخطأت بذلك التهديد؟ هكذا سألت نفسي، نعم أخطأت، هكذا أجبتها، وكان الخطأ سيعظم أكثر وأكثر لو أن الطالب لم يعترف ولم أنفذ تهديدي، لكني كنت أنوي إنفاذه لو لم يفعل، أما الخطأ فكان أني أردت أخذ الجميع بجريرة الواحد، وهم الذين انقسموا إلى أقسام لا تجب معاقبتها جميعًا، فقسم هم أصدقاء الفاعل المجهول، والصداقة تحتم الستر عليه، وقسم مستمتع بأذية المعلم، وإفشاء سر الفاعل سيمنع حدوث مضايقات مستقبلًا، وهذا سيفقدهم المتعة، وقسم أخير مغلوب على أمره، يخشون الفاعل إن كان متنمرًا، وهو كذلك في الغالب، فيفضلون الصمت ليتقوا الأذى الذي لن تحميه منه إدارات المدارس.

لكنها العجلة، قاتلها الله، هي من أجبرتني أن أتخذ قرار العقاب الجماعي، وقبل العجلة، قاتلها الله، فإن ما عاصرناه حين كنا طلابًا هو السبب الرئيس في تهديدي المتهور، فكم عوقبنا جميعًا لذنب لم نقترفه..!! كان المعلمون، ولا يزالون، يبحثون عن الحل الأسهل لإسكات الجميع، فيلجأون للعقاب الجماعي.

كيف عساني أنسى أستاذ (عبدالعزيز)، أستاذ اللغة الفرنسية ضعيف الشخصية الذي كان يشكونا لأستاذ (علي)، أستاذ التربية البدنية، صاحب الشخصية الفتّاكة..!! كنّا نتستر على من يحدث الجلبة في الفصل، وكنت أنا من القسم الثاني المستمتع، فيصلني العقاب كما يصل لـ (35) طالبًا غيري، أستاذ (علي) كان يأخذنا في حصة اللغة الفرنسية إلى صالة الرياضة لنقوم بتمارين يعجز عنها مشاة البحرية الأمريكية (المارينز)، وفي منتصف العقوبة؛ يأمر الأستاذ القسم الثاني والثالث بالصعود إلى المدرجات، ويبقى العقاب مستمرًا للقسم الأول، الذين يحوي الفاعل بطبيعة الحال.

معاقبة الجميع بخطيئة الفرد إجحاف، وظلم لا يغفره المظلوم ولو طال الزمن، بدليل أني لا أزال غاضبًا من الأستاذ (علي)، وأدعو عليه وهو موسّد في قبره، مات وما يزال ظلمه في ذهني، أذكر صراخه ودفعه لنا، ويسخن جسمي كلما تذكرت إهاناته للجميع.

كان بوسعه استخدام طريقة أفضل لمعرفة المخطئ، وهي ما قمت بها بعد إساءته لنا بأكثر من (10) سنوات، فبعد حادثة (الشيلة) قررت ألا أعود لنفس الخطأ، وحين اضطررت يومًا للتعامل مع طلاب معلم يشبه الأستاذ (عبدالعزيز) في شخصيته؛ دخلت الفصل وكلمتهم بحزم: "سأجلس في غرفة الإشراف، وستأتون إليّ واحدًا تلو الآخر، ولن يعلم أحد بما أخبرني به زميله"، الغريب أن الاعتراف كان من أول طالب دخل علي، لكني اضطررت للتظاهر بجهلي حتى دخل علي آخر طالب، ثم عدت إليهم وناديت المسيء للمعلم وعاقبته، وحتى اليوم فلا أحد من الفصل يعلم الذي أفشى سرهم المقدس.

كل ما احتاجه الأمر هو توفير بيئة آمنة للمستضعفين والمستمتعين، وتهديد صريح للفاعل وأصدقائه، وهذا ما حدث مع الجميع، كلّ على حدة، ومما هو جدير بالذكر أن أغلب الفصل اعترفوا بأن فلانًا هو الفاعل، والجميع يحسب أنه الوحيد المفشي للسر، لأني حين دخلت عليهم لأنادي المسيء؛ قلت: "أتاني اعتراف شجاع واحد، أما الباقي فكانوا جبناء لم يعترفوا، وسأصدق الشجاع الوحيد في الفصل"، فظن كل معترف أنه الشجاع المعني.

أما مقولة: "الخير يخص والشر يعم"؛ فإنها فاسدة كفساد إدارة المدرسة التي انتقلت لها، ثم انتقلت منها هربًا، فالعدل الإلهي يقتضي غير ذلك، إذ يقول الله تعالى في (سورة الإسراء، الآية 15): "من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"، ومن ذلك يكون أخذ الجميع بخطأ الواحد ظلمًا كبيرًا، على صاحبه ما يستحق.

سعد المحطب
26-9-2019