الخميس، 3 ديسمبر 2020

أبيعك بعلبة إندومي

 أبيعك بعلبة إندومي

أجبرتني الظروف -كما يُقال- على صحبة من لا تجدر بعاقل صحبته، حاولت تسطيح العلاقة قدر الإمكان، إلا أن الظروف أحيانًا كانت تتدخل فتجبرني مرة أخرى على السماح له بالاقتراب قليلًا، وهكذا كنت معه مذبذبًا، ما بين دنو ونزوح، ومن وقاحة الظروف أنها جعلته جارًا لي في يوم لا شمس فيه ولا قمر.

ومن باب الإنصاف؛ أقول إنه لم يرمِ أوساخًا أمام بابي، ولم يشغّل الموسيقى بصوت عالٍ، بل إني لم أشعر بوجوده قربي، قلت في نفسي يومًا: "لعلّي أنا المخطئ، فهو ليس بجار سوء، وكل ما بدر منه كان من خسة متأصلة في نفسه، وليس بيده حيلة، سأحاول الإحسان إليه، لعله يبادلني الإحسان"، لم أفعل، لأني دخلت المطبخ المشترك بيننا فوجدته قد عاد من السوق توًا، أحضر ما قدّر الله له أن يحضر، أما أنا فكنت عائدًا للتو من (محمد نور البخاري)، ولا مكان في معدتي الصغيرة حتى لحبّة (كازو).

قال لي بأدب ورقّة: "هل تريد؟"، كان مادًا يمناه لي بعلبة (إندومي)، ولأني كنت من محبي الطعام السيئ؛ أخذتها منه ووضعتها جانبًا: "سآكله غدًا، شكرًا جزيلًا لك"، قلبي كان يرقص فرحًا كأنه قدّم لي وجبة من (جسميز)، ولولا الحياء لرقصت أوصالي.

هل من إفطار ألذ من علبة إندومي ساخنة في صباح شتوي غائم؟ امتطيت نعلي (أجلّ الله القارئ والسامع)، تأبطت غلّاية الماء بما تحويه، اتجهت مباشرة نحو المطبخ، وإذا بالعلبة قد اختفت، اختفى معها أملي بيوم جميل، بحثت عنها كقطة تبحث عن وليدها، وبطة فقدت بيضها، لكن مع الأسف، فلا القطة وجدت وليدها، ولا البطة أعادت بيضها، أما أنا فقد رأيت علبة الإندومي تقبع في قاع سلة القمامة، رفقة العلبة التي كانت لجار الرضا، أكلها بدم بارد، أعني أكل ما بداخلها وليست هي بذاتها.

بعد أيام بدا الأمر جليًا لمن يعرفني ويعرفه، لم أعد أعامله كما كنت، لا أتحاشاه كصديق غاضب، بل إني صرت أراه غريبًا، ولربما وقفت قريبًا منه دون أن ألتفت إليه، لماذا نلتفت لغريب لا نعرفه؟

كان في بداية الأمر يحاول معرفة السبب، أبدى استعدادًا -ضمنيًا- للجلوس إلى طاولة المفاوضات وتبادل الآراء، لكني لم أظهر له تقبلًا لمبادرته، طال الأمر قليلًا، سألني أحد من لاحظوا الجفوة المفاجئة، قلت: "طابت نفسي من معرفته"، سكتُّ.. ولم آتِ بذكر الإندومي.

تحولت الجفوة مني إلى عداء منه، أتاني من سألني سابقًا ليخبرني بأنه سمع عني ما لم يتوقعه، ومصدر تلك المعلومات كان جار الرضا شخصيًا، لص الإندومي، سكتُّ مرة أخرى، فما قيل أجدر ألا يُرد عليه، وقلت حينها للسائل: "لن أدافع، ولكن سأعلمك سبب الجفوة"، وسردت له الموقف المذكور آنفًا، استغرب مني، قال: "حقًا؟ السبب تافه"، صديقي السائل فكر بالإجابة ولم يفكر بما وراءها، ولو علم لعذرني.

على كل حال، علبة الإندومي البائسة كانت قشة من كومة قش، لكنها كانت آخر ما وُضع على ظهر البعير؛ فانكسر، الجاهل يظن القشة هي من كسرت ظهر البعير، دون أن ينظر لباقي الأحمال الثقيلة، وكذلك هو من يظن علبة الإندومي تكفلت بقطعي لعلاقة مع شخص لم يرمِ أوساخًا أمام بابي.

في علاقاتنا الإنسانية توجد أحمال لا نتكلم عنها، نضعها فوق ظهورنا دون أدنى اعتراض، حتى تأتي القشة الأخيرة؛ فتنثر كل شيء قبلها، الجميل والقبيح، فتظهر إحدى صفات المنافقين لدى أغلب الناس، يتخاصمون فيفجرون، يفشون أسرارًا كانت مؤتمنة عندهم، ولا يخلو الأمر من إضافات تبرر الخصومة في أعين المراقبين.

لو أن كل حمل وُضع أزلناه؛ لما أثّرت فينا علبة إندومي، بل حتى صحن الباستا بالكريمة البيضاء مع جبنة البارمزان لن يقوى على فعل ما تفعله القشة الأخيرة، فالواجب هو إزالة كل حمولة على حدة، ولا يكون ذلك مع كل أحد، فمن لم يكن فيه من خير سوى عدم وضع الأوساخ أمام الباب فهو ممن لا تُحمد صحبته، بل إني أشك أحيانًا بأنه يضع الأوساخ، لكن عامل التنظيف يزيلها قبل أن أراها، نعم، أظن ذلك، بل أجزم به.

هكذا يُعامَل الصديق، ولا يصح أن تُهدم صداقة لسبب تافه، هو في حد ذاته تافه، لكنه يستمد قوّته التي تكسر كل شيء من الأحمال السابقة له، فتأخير عن موعد لا يضر كثيرًا، وتهرّب متكرر من مناسبة مهمة ليس سببًا لشجار، والتسبب بخسارة مباراة مع الأصدقاء لا تقصي أحدهم من المجموعة، والشدة في النقاش لم تلغِ يومًا ودًا بين صاحبين، أما لو اجتمعت تلك الأمور، وانضمت لها أسباب أخرى بنفس سخفها دون أن تبرر؛ سيأتي أخيرًا سبب أتفه من علبة إندومي لينسف كل ما كان.

سعد المحطب
2-12-2020

الثلاثاء، 19 مايو 2020

خطوات التطبيع


خطوات التطبيع

بعث لي الصديق (عبدالعزيز القحطاني) مقطعًا قبيحًا، وأتبعه بالآتي: "هذا وقتك يا أبا جمانة لترد على الأنجاس، أخرج قلمك من غمده واجلدهم واجعلهم عبرة لمن لا يعتبر"، شاهدته مرارًا، ربما (20) مرة.. أو يزيدون، أريد أن تخرج مني الكلمات بعقل وتروّ، أخشى أن أندفع؛ فأسمّي الأشياء بمسمياتها، فهذا إن حدث؛ لن ينثني من ظهر في المقطع عن رفع ألف قضية ضدي.

يقوم ممثل بتأدية دور حاخام، ويقف بجانب مسلم أمام ضابط شرطة، يقول ما نصّه: "إحنا نعيش بمكان واحد.. ميخالف، كل واحد يعرف اللي له واللي عليه، لكن إحنا نتناسب؟ لا وألف لا، شوف يا حضرة الضابط، اللي بينا وبينهم سنين طويلة، مو توّه، مو جديد، من زمان، من أيام خيبر إلى اليوم وإحنا تحت الظلم وتحت الإهانة"، انتهى كلامه.

ينكر بعض بني جلدتنا أن المسلسل يروّج للتطبيع، حجتهم في ذلك أنهم يظهرون اليهود لصوصًا وخونة، ويبينون خبثهم أمام الملأ، فليس من مصلحة الصهاينة أن يُنتج عمل بهذه الطريقة، وكأن الصهاينة لو أرادوا منع شيء كهذا ستستطيع (حياة الفهد) أن تردعهم، لكن المعروف والمعلوم لدى العقلاء أن اليهود أذكى من ذلك، هم أعداؤنا، لكننا لا ننكر ذكاءهم، وإنما ننكر دهاءهم.

وبتعريج بسيط عن صلب الموضوع؛ سأشرح الفرق دون إطالة:

الداهية يستطيع تدبّر أمره، وتخليص نفسه إن وقع في مشكلة مفاجئة، وعادة ما يفكر بحلول خارج الصندوق، قصص دهاء (عمرو بن العاص) رضي الله عنه لا تكاد تُحصى، أما الذكاء فهو أن الرجل لا يتورط في أمر إلا إن علم كيف يخرج منه، وإن حصل وتورّط فإنه يلجأ للمنطق، وكتاب (الأذكياء – لابن الجوزي) مليء بالأمثلة، إذن: فالذكي لا يدخل متاهة لا يعرف طريق الخروج منها، أما الداهية فيدخلها ولا يبالي، وكلاهما في الغالب خارج منها.

أقول: ذكاء اليهود يقتضي أن يرضوا بالمسلسل، بل ويباركوه ويدافعوا عنه، إما شخصيًا وإما بإرسال أذنابهم من المسلمين الخونة، لهذا نجد بعض من ينتسبون للإسلام يذودون عن المسلسل كما يُذاد عن العرض، ويتباهون بأننا استطعنا عن طريق الإعلام أن نحارب خبثهم ودناءتهم، والمدافعون هنا ينقسمون لقسمين: قسم الأذناب كما أسلفنا، وقسم جاهل لا يستقرئ ولا يستنبط، الأول واجب محاربته، والثاني واجب نصحه وإرشاده.

          الضحية لن تقبل المجرم دفعة واحدة، التقبل يأتي على مدى سنوات، ولا بأس في ذلك عند اليهود، فلديهم كل الوقت، ليسوا على عجلة في شيء، كيف لا وهم تلاميذ (إبليس) الذي انتظر عشرة قرون حتى يضل الناس بعبادة الأصنام، فعن (عكرمة) أنه قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام"، والحديث صححه (الألباني) في سلسلة الأحاديث الصحيحة (854/7).

          انتظر (إبليس) ألف سنة، وأتباعه معه منتظرون، الصهاينة لعنهم الله لم تكن لهم الجرأة في طلب التطبيع مع المسلمين في الأربعينيات أو الخمسينيات، فأبناء تلك الحقب عاينوا الاحتلال وقيام ذلك الكيان، انتظروا بضعة عقود بثوا خلالها سمومهم عبر الإعلام، ساعدهم في ذلك الخونة من المسلمين على مدى عشرات السنين، حتى استطاعوا إيجاد أتباع لا يخشون إعلان التطبيع، بل وصل الأمر ببعض المطبعين من الذلة والخسة أن يطلبوا تأشيرة دخول إلى الأرض المغتصبة، وما هذه التأشيرة إلا اعتراف بذلك الكيان بكونه (دولة).

          بقيت دولة الكويت عصية على أطماعهم بالتطبيع، دولة اتحدت كلمة حاكمها وبرلمانها وشعبها في رفض الاعتراف، فأرسل الكيان الصهيوني النجس أحد أذنابه المتمثل بقناة (MBC) المشهورة بدعمها لكل فساد وعهر أخلاقي، فأنتجوا مسلسل (أم هارون) بخبث وذكاء يهودي، إذ أعطوا البطولة لممثلة من الكويت، ثم أظهروا أنفسهم (اليهود) بصورة قبيحة، مع استجداء بعض الاستعطاف من المغفلين الذي سبق وصفهم بمن لا يستقرئون ولا يستنبطون، فالخطة تقتضي أن يظهروا كذلك في البداية، ثم سيظهرون منهم الودّ، وأن الخبث منحصر في قلة منهم، شأنهم شأن باقي الديانات، بعد ذلك يظهرون الخبث كفعل شاذ عنهم، ولا يصدر إلا من الإسرائيليين ذوي الأصول العربية، وفي النهاية سنجد أجيالًا مسلمة تألف الصهيوني، فتعتبره شريكًا في الوطن، ولا بأس بوجوده، هو إنسان في النهاية..!!

          نحن، بفضل الله، نرى اليهودي نجسًا، وذلك لسلامة عقيدتنا وفطرتنا، لسنا مثل ذلك المسلم في المشهد المذكور آنفًا، فحين ادعّى الممثل أن الظلم واقع على اليهود منذ أيام خيبر؛ نكّس المسلم رأسه، كأنه يقرّه على ما قاله، يقرّه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد ظلم، وحاشى لرسولنا ذلك.. حاشاه رغمًا عن أنف كل طاقم المسلسل الملعون.

اليهود أهل غدر، التطبيع معهم ضعف وهوان وخيانة، هكذا عُلّمنا، وهكذا سنعلم أبناءنا، ستبقى الكويت بإذن الله عصية عليهم، وسيرجع الرشد لكل حاكم مسلم زلّ وضعف، أو سيبدله الله ليأتي بخير منه.

سعد المحطب
19-5-2020

الثلاثاء، 5 مايو 2020

شيخ البوتيكات


شيخ البوتيكات

سرحت في خيالي قليلًا؛ فرأيتني أملك مقهى فاق ستاربكس وكاريبو، كتب الله تعالى له النجاح والقبول؛ فانتشرت فروعه في أرجاء الخليج العربي، ثم في الوطن العربي، وأخيرًا في أوروبا، قرأت بعدها مقالًا يهاجمني فيه كاتب أجير وضيع لأني سمحت لوكيلي في بريطانيا أن يفتتح فرعًا قبل شهور في مجمع يحوي محلات تبيع الخمور.

عدت إلى الواقع؛ فرأيتني (ما عندي ما عند جدتي)، كل خيالاتي كانت خيالًا اختفى بلحظة، إلا الكاتب الأجير الوضيع رأيته عيانًا، بل إنهم كتّاب أجراء وضيعون، عددهم أكبر من أن يُحصى، اجتمع جُلّهم لمحاربة شخص لا يحبونه لأسباب تخصهم وحدهم، وجدوا شيئًا يعيبونه به؛ فلم يستنكفوا أن يسخّروا طاقاتهم وأقلامهم الفاجرة لمهاجمته.

انتشر خبر تعاقد القارئ (مشاري العفاسي) مع شركة (بوتيكات)، فقامت الدنيا ولم تقعد، ولألخّص جميع التهم المنسوبة لضحية الشتم؛ فإني أجمعها في فقرة واحدة، وأقول على لسانهم:

"بدأ شيخًا يقرأ القرآن، فتسلق عليه واكتسب شهرة، ثم تحول إلى الإنشاد ليكسب جمهورًا أكبر، وحين نال ما يريد؛ أصبح تاجرًا يبيع العطور بأسماء عربية وإسلامية، والأسعار عنده غالية جدًا، ثم بعد ذلك كله تعاقد مع (بوتيكات) الذين يبيعون منتجات بأسماء أشخاص لا يصح أن تقترن باسم شيخ، وأصبحت صوره توضع بجانب صورة العارضة والممثلة والمذيعة".

أجيب، وبالله التوفيق ومنه التأييد:

لنعلم في البداية أن (مشاري العفاسي) قارئ وليس عالمًا، وإنما يُنادى بلقب (شيخ) تشريفًا لما يحفظه في صدره، هو لا يفتي، ولا يبدي رأيًا ملزمًا لأحد غيره، سلطته لا تتعدى أهل بيته، شأنه شأن غيره، وكما هو الحال بالنسبة لكثير ممن نحسبهم على دين؛ فإنه يحب العطور والطيب، فافتتح محلًا لبيعها واكتساب الرزق عن طريقها، لا تصح محاسبته أو لومه، بل حتى لا يصح سؤاله، هو حر فيما يتاجر به.

أما فيما يتعلق بالأسعار؛ فبضاعته ليست من السلع الضرورية التي لا تستقيم الحياة دونها، وبالتالي يحرم احتكارها ورفع أسعارها، ثم إن من يشتكون من أسعاره هم نفسهم الذين يشتمونه ويعيبون عليه افتتاح مشروع العطور، كيف سأوفّق بين كونهم يعيبون عليه بيع العطور، وشكواهم من الأسعار؟ لا أفهم من ذلك إلا أنهم يريدون الشراء منه، لكن أسعاره تمنعهم، توجد عطور بروائح طيبة وأسعار رخيصة، ليذهبوا لشرائها، لكن لا تطلبوا من (فيراري) أن تبيعكم بسعر (نيسان) فقط لتناسب ميزانياتكم..!!

أما (بوتيكات)، وما أدراك ما هو، لا أراه يختلف عن (أمازون) أو (علي بابا)، ولا حتى (طلبات) أو (كاريدج)، جميعهم أسواق افتراضية، وكل عارض عندهم يمتلك في ذلك السوق محلًا افتراضيًا، وبدل الإيجار فإنه يدفع نسبة من الأرباح، وبالعودة إلى مقهاي في أوروبا؛ هل فعلًا كان سيعيبني لو أني افتتحت فرعًا في مجمع يباع في أحد محلاته خمر؟ الحال لا يختلف هنا، فصديقنا (العفاسي) افتتح محلًا افتراضيًا في المجمع الافتراضي، والذي قامت المذيعة والعارضة بالتأجير فيه، لا شبهة في الأمر، فلو سرنا وفق هذا المنطق الأعوج؛ فلن نتاجر ولن ندرس ولن نلهو، لن يغادر أحد صومعته، أهل الفساد كُثُر، ولهم أذرع في كل مكان، لو تُركت لهم لاحتلوا العالم، ولبقي الملتزمون في صوامعهم وجوامعهم يتعبدون حتى قيام الساعة.

وختامًا أقول: اشتريب لأبي عطر (المتنبي) وأعجبه، واشتريت لنفسي عطر (الفرزدق) فأسرتني رائحته، أنصح به كل من لا يكره شخص (العفاسي)، وأيضًا من يكرهه دون أن يفجر بالخصومة.

سعد المحطب
5-5-2020

السبت، 22 فبراير 2020

نائحة مستأجرة


نائحة مستأجرة


لي معرفة بشخص غريب الأطوار، ولا أعني غرابة المبدعين التي نراها -نحن البسطاء- كذلك، بينما هي عندهم من طبيعة شخصياتهم، إنما أعني غرابة الحمقى والمغفلين، الذين يأتون بأفعال خارجة عن المألوف بلا تفسير مقبول، ولو سئلوا وأجابوا لقيل لهم: "ليتكم سكتّم".


أذكر من غرابته أنه اشتكى لي من شخص سيء، وكنت مؤيدًا له ومؤكدًا على سوء خلق المشكي بحقه، فقد آذاني أكثر مما آذاه، وعلى كل حال؛ فإني آزرته في الشتم والدعاء، وربما قذفه ببعض ما ليس فيه، بغرض التشفّي فقط، وأستغفر الله على صمتي حينها.


قدّر الله بعد مجلس السوء ذاك بأسبوعين أن يقبض روح من شتمناه، فإذا بصاحبي الغريب يبكي كنائحة مستأجرة، قدّرت صدمته بما حصل، لكنه (زوّدها حبتين)، فبدأ يذكر محاسن لم تكن يومًا بذلك الشخص، لم أعترض، بل هززت رأسي مرارًا مؤيدًا لكذبه، فقط لأعوّض تأييدي حين قُذف بما ليس فيه.


مللت من تحوّل محور حديثنا إليه طوال ساعة، فقلت: "يكفي، قبل أيام كنت تشتمه، والآن تبكيه كأنه أخوك"، استغرب في البداية، ثم بدأ هجومه عليّ، ودافع عن ذلك الشخص دفاعًا مستميتًا بلا هوادة، وادعى أنه صديق قديم، إذ عرفه منذ (3) سنوات..!!


اختلفنا حينها، ثم (طاح الحطب) بعدها بقليل، وعادت العلاقة سليمة لا يشوبها أذى، جلسنا بعدها بشهور في مقهى مجاور، فإذا باتصال يأتيني يخبرني فيه من كان على الطرف الآخر أن جامعتي في البحرين تنتظرني، وأن جميع إجراءات قبولي في الماجستير تمت على خير، لم أجد من أشاركه فرحتي قبل صاحبي الغريب، بشرته دون تفكير أني أخصّه بشيء هو من حق والديّ قبل الجميع.


بدأت السنة الدراسية، ولمدة شهر كامل كنت أرجع للكويت كل أسبوع، وفي كل عودة لي أجلس مع الغريب، بعدها بشهور علمت مصادفة أنه استقال من عمله السابق، ويشغل حاليًا وظيفة سعينا لها معًا، جمعتني الصدفة وإياه بعد أن أنهيت عامي الدراسي وعدت للكويت، اضطر أن يخبرني أنه يعمل في ذلك المكان، ويلومني لنسياني أنه أخبرني، وهو والله لم يخبرني، ويشهد على ذلك صدوده بوجهه عني حين أقسمت له أنه لم يخبرني، المحزن أن قبوله كان خلال الأيام التي جلسنا فيها أسبوعيًا، وربما قبلها، لكنه فضّل عدم إخباري.


المرضى من أمثال هذا الغريب يحسبون الأعين مصوّبة نحوهم، ويظنون، مخطئين، أن لا أحد يرجو لهم الخير، بينما هم مما لا يُأبه لهم إن نجحوا في حياتهم أم فشلوا، كنت سأفرح له كفرحي بإتمام إجراءات قبولي في الماجستير، وربما أكثر، لكن محور الكون صنفني حسودًا يرجو زوال الخير عن الجميع، لعله رآني بعين طبعه، ولعل الحسد هو ما كان يضمره لي حين بشرته قبل أهلي بقبولي.


الخوف المرضي من الحسد لدى البعض يمنعهم من عيش الحياة كما يجب، يعاملون الناس كأنهم أعداء، شعارهم في كل علاقاتهم: "هم العدو فاحذرهم"، فلو سألت أحدهم عن أمر لا يضره البوح به؛ لظن أنك تدبر له مكيدة تنهي بها مستقبله المشرق، ولو قدمت له نصيحة؛ لأقسم في سرّه أنك تنوي الإطاحة به، لا يثقون بأحد، وهذا الخلل عندهم نابع من عدم ثقة أحدهم بنفسه، استفحلت فيهم (البارانويا)، فرأى الواحد منهم جميع الناس أعداء، يظهرون الودّ ويضمرون الخبث، فأظهروا الانبساط وأضمروا الحذر، ولا خاسر في النهاية غيرهم، إذ لا صديق يدوم لهم، كل العلاقات مؤقتة.. وإن استمرت (12) سنة.


أقول: الإشفاق لحال هؤلاء الناس أولى، والبُعد عنهم أجدى، ومصادقة سواهم خير وأبقى، وإن أحد ابتُلي بصديق من هذه الفئة؛ فالحذر الحذر، لا يندفع أحدنا في علاقته معهم فيُصدم، فالصفعة من أمثالهم مؤلمة، تشعرنا بالذنب والخطأ منهم، تدفعنا للاعتذار عن خطأ هم اقترفوه، ثم الندم على صداقة هم باعوها.


سعد المحطب
22-2-2020