السبت، 22 فبراير 2020

نائحة مستأجرة


نائحة مستأجرة


لي معرفة بشخص غريب الأطوار، ولا أعني غرابة المبدعين التي نراها -نحن البسطاء- كذلك، بينما هي عندهم من طبيعة شخصياتهم، إنما أعني غرابة الحمقى والمغفلين، الذين يأتون بأفعال خارجة عن المألوف بلا تفسير مقبول، ولو سئلوا وأجابوا لقيل لهم: "ليتكم سكتّم".


أذكر من غرابته أنه اشتكى لي من شخص سيء، وكنت مؤيدًا له ومؤكدًا على سوء خلق المشكي بحقه، فقد آذاني أكثر مما آذاه، وعلى كل حال؛ فإني آزرته في الشتم والدعاء، وربما قذفه ببعض ما ليس فيه، بغرض التشفّي فقط، وأستغفر الله على صمتي حينها.


قدّر الله بعد مجلس السوء ذاك بأسبوعين أن يقبض روح من شتمناه، فإذا بصاحبي الغريب يبكي كنائحة مستأجرة، قدّرت صدمته بما حصل، لكنه (زوّدها حبتين)، فبدأ يذكر محاسن لم تكن يومًا بذلك الشخص، لم أعترض، بل هززت رأسي مرارًا مؤيدًا لكذبه، فقط لأعوّض تأييدي حين قُذف بما ليس فيه.


مللت من تحوّل محور حديثنا إليه طوال ساعة، فقلت: "يكفي، قبل أيام كنت تشتمه، والآن تبكيه كأنه أخوك"، استغرب في البداية، ثم بدأ هجومه عليّ، ودافع عن ذلك الشخص دفاعًا مستميتًا بلا هوادة، وادعى أنه صديق قديم، إذ عرفه منذ (3) سنوات..!!


اختلفنا حينها، ثم (طاح الحطب) بعدها بقليل، وعادت العلاقة سليمة لا يشوبها أذى، جلسنا بعدها بشهور في مقهى مجاور، فإذا باتصال يأتيني يخبرني فيه من كان على الطرف الآخر أن جامعتي في البحرين تنتظرني، وأن جميع إجراءات قبولي في الماجستير تمت على خير، لم أجد من أشاركه فرحتي قبل صاحبي الغريب، بشرته دون تفكير أني أخصّه بشيء هو من حق والديّ قبل الجميع.


بدأت السنة الدراسية، ولمدة شهر كامل كنت أرجع للكويت كل أسبوع، وفي كل عودة لي أجلس مع الغريب، بعدها بشهور علمت مصادفة أنه استقال من عمله السابق، ويشغل حاليًا وظيفة سعينا لها معًا، جمعتني الصدفة وإياه بعد أن أنهيت عامي الدراسي وعدت للكويت، اضطر أن يخبرني أنه يعمل في ذلك المكان، ويلومني لنسياني أنه أخبرني، وهو والله لم يخبرني، ويشهد على ذلك صدوده بوجهه عني حين أقسمت له أنه لم يخبرني، المحزن أن قبوله كان خلال الأيام التي جلسنا فيها أسبوعيًا، وربما قبلها، لكنه فضّل عدم إخباري.


المرضى من أمثال هذا الغريب يحسبون الأعين مصوّبة نحوهم، ويظنون، مخطئين، أن لا أحد يرجو لهم الخير، بينما هم مما لا يُأبه لهم إن نجحوا في حياتهم أم فشلوا، كنت سأفرح له كفرحي بإتمام إجراءات قبولي في الماجستير، وربما أكثر، لكن محور الكون صنفني حسودًا يرجو زوال الخير عن الجميع، لعله رآني بعين طبعه، ولعل الحسد هو ما كان يضمره لي حين بشرته قبل أهلي بقبولي.


الخوف المرضي من الحسد لدى البعض يمنعهم من عيش الحياة كما يجب، يعاملون الناس كأنهم أعداء، شعارهم في كل علاقاتهم: "هم العدو فاحذرهم"، فلو سألت أحدهم عن أمر لا يضره البوح به؛ لظن أنك تدبر له مكيدة تنهي بها مستقبله المشرق، ولو قدمت له نصيحة؛ لأقسم في سرّه أنك تنوي الإطاحة به، لا يثقون بأحد، وهذا الخلل عندهم نابع من عدم ثقة أحدهم بنفسه، استفحلت فيهم (البارانويا)، فرأى الواحد منهم جميع الناس أعداء، يظهرون الودّ ويضمرون الخبث، فأظهروا الانبساط وأضمروا الحذر، ولا خاسر في النهاية غيرهم، إذ لا صديق يدوم لهم، كل العلاقات مؤقتة.. وإن استمرت (12) سنة.


أقول: الإشفاق لحال هؤلاء الناس أولى، والبُعد عنهم أجدى، ومصادقة سواهم خير وأبقى، وإن أحد ابتُلي بصديق من هذه الفئة؛ فالحذر الحذر، لا يندفع أحدنا في علاقته معهم فيُصدم، فالصفعة من أمثالهم مؤلمة، تشعرنا بالذنب والخطأ منهم، تدفعنا للاعتذار عن خطأ هم اقترفوه، ثم الندم على صداقة هم باعوها.


سعد المحطب
22-2-2020